السبت، 27 أغسطس 2011

نحو تأسيس لسانيات قرءانية

بقلم عمر محمد سعيد الشفيع omar.alshafi@gmail.com
الخميس, 21 أيار/مايو 2009 19:45

أولاً - اللسان العربي: تعريف وتصنيف
كنت في بداية السنوات التسعين من القرن العشرين أقرأ في المقدمة الضافية العميقة التي خطها قلم الأستاذ محمود محمد شاكر عليه شآبيب الرحمة لكتاب الظاهرة القرءانية الذي ألفه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله وقد لاحظت أن الأستاذ شاكر كان يدافع عن الشعر العربي ضد الذين جاؤوا بأبيات ناصعة من الشعر ولكنهم قلَّلُوا من قيمتها عند مقابلتها بآيات من القرءان العظيم. قرأت تلك المقدمة عدة مرات وأوحت لي بفكرة الإختلاف والتمايز بين لسان العرب ولسان القرءان ووجدت أن الأستاذ شاكر أحس بهذا الإختلاف ولكنه أفلت منه لأن دائرة قوله كانت الدفاع عن الشعر وعدم مقارنته بالقرءان. وسبب اهتمامي بهذا الموضوع يعود لسنوات الدراسة حيث أنني لم أكن أحب في كتب النحو أن تأتي بأمثلتها من القرءان وغيره من القول جنباً إلى جنب.
ثم صرت أقرأ بعد ذلك لكثيرين تحس أنهم يميزون بين اللسانين بدرجة من الدرجات مثل الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد رحمه الله الذي استخدم مصطلحي (الاستخدام الإلهي للغة) و(الاستخدام البشري للغة). وحاج حمد رغم سمو قامته في الدراسات القرءانية المعاصرة إلا أنه لم يلزم نفسه باستخدام اللفظ القرءاني (لسان) وجرى قلمه بلفظ (لغة).
والموضوع يحتاج لبحث طويل قد أحتشد له يوماً إن شاء الله ورضي وأذن ولكني كتبت هذه الأسطر حتى يشترك معي القاريء والقارئة الكريمين في توسيع الموضوع وعرضه للنقاش لنستفيد من آرائكم التي التي سوف تؤثر على صياغة مقبولة له.
وهذا الملخص أو الموجز سوف يهتم بتعريف اللسان العربي والفرق بينه وبين لسان العرب والفرق أيضاً بين لسان العرب ولسان القرءان.وفي الموجز القادم سوف نكتب عن بعض خصائص لسان القرءان إن شاء الله.
1. لسان العرب
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
لسان العرب هو اللسان الذي تكلمه العرب فعلاً في الواقع سواء في ماضيهم أو في حاضرهم. وذلك الماضي يشمل كل لهجاتهم ولغاتهم في الزمان (كاللهجات اليمنية القديمة أو لغات بلاد الرافدين العتيقة أو اللغات القديمة في وادي النيل) والمكان (الجزيرة العربية وبلاد الشام ووادي الرافدين ووادي النيل وشمال أفريقيا). أماالحاضر فيشمل كل اللهجات العربية الحديثة والمعاصرة بالإضافة إلى تطورات اللسان المعياري في العصر الحديث (ما يسمى باللغة الفصحى) وما أهملته المعاجم التي سجلت ألفاظها في فترات محددة ومن بيئات معينة. وبعض ما أهملته المعاجم فقد اشتملت عليه الكتب العربية في العصور المختلفة. ورغم هذا الإتساع في الزمان والمكان فقد نجد جذراً لسانياً معيناً قد أهمله العرب في كل مراحلهم قديماً وحديثاً ولم يستخدموه. والجذور اللسانية الثنائية والثلاثية يمكن إحصاؤها الآن عن طريق الحاسوب من تباديل وتوافيق الحروف العربية. والتداول أو الإستعمال في لسان العرب مفتوح لتوسيع الدلالة من حيث التحسين والتقبيح ومن حيث الحياة أو الموت ومفتوح أيضاً في استخدام كل الصيغ التصريفية. وإذا أردنا أن نضرب أمثلة لإنفتاح لسان العرب وإنضباط لسان القرءان فسوف نجد أن لسان العرب يستخدم لفظي (دين) و(أديان) في حين أن لسان القرءان لا يعرف هذا الجمع (أديان) لأن (الدين) عند الله واحد ولكن تتعدد رسالاته. وفي مقابل ذلك فإن لسان القرءان يعرف الجمع (حدود) ولا يعرف المفرد (حد) لأن دين الله يقوم على الحدود التي تتيح للمتدين أن يسعى بينها بعد معرفة أن هناك حدوداً لا يجوز له أن يقترب منها وهناك حدوداً لايجوز له أن يتعدَّاها.
2. لسان القرءان
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
لسان القرءان هو الجذور والألفاظ والأدوات الواردة في القرءان العظيم من أول سورة الفاتحة وحتى آخر سورة الناس. ويشترك هذا اللسان مع لسان العرب في أنه يمثل مجموعة متقاطعة مع مجموعة لسان العرب. والتقاطع يعني أنه توجد بعض الجذور في لسان القرءان غير مستخدمة في لسان العرب وأمثلتها تلك الألفاظ القرءانية المهجورة الاستخدام عند العرب مثل لفظة (الأَمْت) إذا نظرنا للجذر ولفظة (كُبَّار) إذا نظرنا للجذع الذي هو الصياغة. وبالطبع هناك ألفاظ في لسان العرب غير مستخدمة في لسان القرءان لأن لسان العرب أكثر جذوراً من لسان القرءان وذلك مثل (سبر) إذا نظرنا للجذر و(العقيدة) إذا نظرنا إلى الجذع. وهناك بعض الألفاظ القرءانية التي يستخدمها العرب في لسانهم في معنى تداولي قد يختلف عن المعنى التداولي لها في القرءان.
ولسان القرءان يتميز بالمحدودية والتناهي فهو محدود في جذوره وصياغاته التي يمكن إحصاؤها عدداً ولكنه متناهٍ في إمتداد معانيه عبر الزمان والمكان. وحسب المعجم الموسوعي لألفاظ القرءان الكريم وقراءاته فإن جذور لسان القرءان تبلغ 1884 جذراً وبالتأكيد فإن جذور لسان العرب أكثر من ذلك بكثير.
والمشكلة تنشأ عند المؤلفين العرب من مفسرين ونحويين وبلاغيين عندما يأخذون أمثلتهم لتقعيد قواعدهم من لساني العرب والقرءان بلا تفريق بينهما وقد إنتبه إبن فارس لهذه المشكلة فكتب في مقاييس اللغة يقول: (ولولا أن العلماء تجوَّزوا في هذا، لما رأينا أن يُجْمَع بين قول الله وبين الشعر في كتاب، فكيف في ورقة أو صفحة؛ ولكنَّا اقتدينا بهم، والله تعالى يغفر لنا، ويعفو عنَّا وعنهم). وهذا التجوُّز (على حد تعبير ابن فارس) في المساواة بين اللسانين هو الذي يجعلنا حتى الآن نذهب مباشرة إلى الشعر الجاهلي أو كلام عرب قبل الرسالة لمعرفة معاني الألفاظ القرءانية في حين أن ألفاظ القرءان يمكن معرفة دلالتها وتداولها من القرءان وحده إذا ثابرنا على ذلك حسب منهج القرءان في التشابه والمثاني.
ولكننا على كل حال نحتاج إلى معجم لدلالات ألفاظ القرءان ينطلق من مستوى الصوت ليفرق في مستوى الجذر بين الدلالات المشتركة تقارباً أو تباعداً بين جذرين أو أكثر في كل مستويات التصريف الثلاثة (أنظرها في مقال قادم بإذن الله) ويسجل أيضا ارتباطات اللفظ واقتراناته في السياقات المختلفة أو المتعددة.
3. اللسان الكامن
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان،اللسان الكامن}.
تبلغ تباديل الجذر الثلاثي (ذي الأصوات المختلفة) ستة تباديل مثل الجذر كتب الذي تكون نتيجة تباديله هي الجذور الآتية:
(كتب، كبت)             (تكب، تبك)              (بكت، بتك)
ويمكن أن تكون بعض هذه الجذور غير مستخدمة في لسان العرب مثل (تبك) و(تكب) التي لا توجد لا في معجم مقاييس اللغة ولا في معجم لسان العرب حسب موقع الباحث العربي الذي يضم مجموعة من المعاجم العربية وبذلك تظل هذه الجذور كامنة وقد تظهر في المستقبل عندما يرى المجتمع أن هناك شيئاً أو مفهوماً جديداً تنطبق دلالته على الدلالة العامة لذلك الجذر الكامن بافتراض أننا نعرف الدلالة العامة للجذر من الدلالة القَبْلِيَّة لأصواته المكونة من دلالة الصوت نفسه ورتبته وحركته الطويلة او القصيرة.
أما جذور هذا اللسان الكامن التي لم تستخدم من قبل فيمكن إحصاؤها عن طريق الحاسوب. وهناك عنصر آخر يمكن أن نعتبره جزءاً من اللسان الكامن وهو الدلالات الجديدة التي تظهر لجذور مستعملة في لسان العرب وبذلك يكتمل العنصران المكونان للسان العربي الكامن
وأظن أن معرفة اللسان الكامن سوف تساعدنا في ترجمة المفاهيم والمصطلحات الجديدة الواردة إلينا في هذا العصر الإتصالي العولمي.
4. اللسان العربي
اللسان العربي = {لسان العرب، لسان القرءان، اللسان الكامن}.
ما هو الفرق في الدلالة بين المركب الإضافي(فستق حلب) والمركب النعتي (الفستق الحلبي) إذا كان المضاف إليه اسماً عَلَماً؟ لم أجد حسب قراءاتي المحدودة من فرق في الدلالة بين هذين الإستخدامين ولكني أظن أن هناك من فرَّق بينهما وإن لم يصلنا مؤلفه أو لم تقع عليه يدي. الفرق في ما يبدو لي أن الدلالة في المركب الإضافي تحصر إضافة ملكية المضاف إلى المضاف إليه مثل الفستق الذي زرع حصراً في حلب واشتهرت به بينما الدلالة في المركب النعتي تنفتح لتصف كل مضاف يتصف بصفات المضاف إليه وإن لم يملكه مثل الفستق الذي يتصف بصفات فستق حلب وإن زرع في دمشق. وعليك أخي القاريء الكريم أن تحاول التمييز بين الدلالتين الناتجتين من الفرق بين (تاريخ القرءان) و(التاريخ القرءاني)، مع ملاحظة الحقل المشترك بينهما.
والآن لنسأل ما هو الفرق بين لسان العرب واللسان العربي؟
لسان العرب هو اللسان الذي تكلمه أو يتكلمه العرب تداولاً في الواقع سواء كان ذلك في الدهر القديم أو في الزمن الحديث أو في الوقت المعاصر.
واللسان العربي أوسع من لسان العرب إذ أنه يشمل بالإضافة إلى لسان العرب كل لسان يتوافق مع أو يجري حسب اللسانيات العربية وإن لم يتداوله العرب في الواقع مثل اللسان الكامن، أو يستعمل العرب معظمه في دلالات تقترب أو تبتعد عن دلالاته الأصلية مثل لسان القرءان.
إذن اللسان العربي يتكون من ثلاثة مجموعات فرعية هي لسان العرب ولسان القرءان واللسان الكامن في تقاطع بين لسان العرب ولسان القرءان وإنفصال بين لسان القرءان واللسان الكامن.
الخلاصة
اللسان العربي هو المصطلح الأعلى الجامع لكل الألسنة تحته ويتكون من ثلاثة ألسنة هي لسان العرب العرب ولسان القرءان واللسان الكامن. اللسان الكامن هو الجذور غير المستخدمة والناتجة من تباديل الجذر الثلاثي ولو كنا نمتلك معاجم للتأثيل (تاريخ الألفاظ) لكنَّا عرفنا عن بعض الألفاظ متى خرجت من كمونها ودخلت الحياة. ولسان القرءان هو الألفاظ المذكورة حصراً في القرءان العظيم ويشكل مجموعة متقاطعة مع مجموعة لسان العرب والتقاطع يعني أن هناك ألفاظاً مشتركة بينهما في الدلالة والتداول إلا أن كل لسان يتميز بألفاظ تختلف عن الآخر في دلالتها وتداولها. ولسان العرب هو كل الألفاظ التي استخدمها العرب في كل عصورهم ومن ضمنها كثير من ألفاظ القرءان سواء إختلفت دلالتها وتداولها مع القرءان أو إتفقت معه. والله أعلم.

ثانياً - نظام التصريف في اللسان العربي

اللسان العربي مصطلح أعم يشمل لسان العرب ولسان القرءان واللسان الكامن كما ورد في مقال سابق خاص بتعريف هذا اللسان وتصنيفه. واللسان العربي (ومن ضمنه لسان القرءان) يمكن دراسته على ثلاثة مستويات هي مستوى الدال ومستوى الدلالة ومستوى التداول (أنظر المقابل الإنجليزي لهذه المصطلحات في الخلاصة).
ويمكن دراسة الدال في مستوى التصويت (علم الصوت ودلالته) ومستوى التصريف (بناء اللفظ والجذع من الجذر) ومستوى التركيب (بناء الجملة والنص). وهذا المقال سوف يركز على نظام التصريف في اللسان العربي. ولأن التصريف من أهم خصائص اللسان العربي، فإن هذا اللسان يوسع الدلالة العامة الأصلية (الدلالة المحورية) للجذر الثلاثي فيه مثلاً بتصريف هذا الجذر في اتجاه الدلالات الفرعية المتعددة حسب أوزان صرفية معروفة وأخرى كامنة يمكن أن تظهر في سيرورة حياته. ونظام التصريف في اللسان العربي يمكن تقسيمه إلى ثلاث مجموعات كبيرة تحتوي كل مجموعة على مجموعات صغيرة داخلها.

1.    التصريف الصغير (الأول):

هذا النوع من التصريف لا يتغير فيه ترتيب حروف الجذر الثلاثي ولكن تأتيه الزيادة في المبنى من واحد أو أكثر من الحروف التي تجمعها جملة (سألتمونيها) بالإضافة إلى التضعيف. هذه الحروف العشرة ليست هي الوحيدة التي تدخل على الجذر في هذا التصريف ولكنها الأشهر في الإستخدام التصريفي. والجذر الثلاثي يأخذ دلالته المحورية من دلالات الحروف المكونة له بذات ترتيبها ووقوع الحركات عليها. ويمكن تمثيل ذلك في مجموعة رياضياتية حيث أن:
دلالة الجذر = {دلالة الحرف + رتبة الحرف + حركة الحرف}.
(مع ملاحظة أن الحرف مقصود به الصوت هنا).
ثم تنمو الدلالة المحورية في اتجاه دلالة فرعية تكون زيادة معناها من زيادة مبناها بإضافة دلالات الحروف الداخلة على الجذر إلى دلالة الجذر الأصلي. ومثال على ذلك نأخذه من الجذر (ر، س، م) ونكتفي فقط بدلالة الحروف وترتيبها حيث أن دلالة الراء هي (تكرر الحركة بترتيب معين)؛ ودلالة السين هي (انسلال الحركة خِفْيَةً لتظهر فيما بعد)؛ ودلالة الميم هي (تكامل الحركة بإتمام ما ينقصها). وترتيب الحروف يعني أن الحرف الثاني يبني حركته على حركة الحرف الأول فيخصصها ثم يقوم الحرف الثالث بتوقيع حركته على الناتج من توقيع حركة الحرف الثاني على حركة الحرف الأول. ونتيجة هذا الترتيب الذي يعمل فيه كل حرف على الحرف السابق له هي تكرر الحركة (ر) والإنسلال الخفي للتكرر (ر، س) وتكامل الإنسلال الخفي للتكرر وإتمامه (ر، س، م) تكَوِّن دلالة حركة الرسم. أي أن الراء تكرر الحركة بترتيب معين ثم تأتي السين فتعمل بانسلالها الخفي على حركة الراء ثم تأتي الميم فتكمل ما ينقص الحركة الناتجة من فعل السين على حركة الراء. هذه هي الدلالة العامة المطلقة لحركة الرسم ويمكن أن تنطبق على أية حركة مثلها في الوجود سواء كان رسماً بالقلم أو بالفرشاة أو بالعقل أو بالخيال أو بغيره. معاني الحروف مأخوذة من المتفكر اللساني عالم سُبيط النيلي عليه رحمة الله.
وهذا النوع من التصريف هو الذي يمكن أن نسمِّيه بالإشتقاق وهو الذي يحتاج إلى دراسات مستفيضة في ربط صياغاته المختلفة وأوزانه العديدة بدلالاتها وخاصة في قياسيَّة الجموع في لسان القرءان ونفي مصطلح (جمع التكسير) عن هذا اللسان العربي المبين (أنظر الفرق في الدلالة بين جموع اللفظ الواحد لاحقاً في هذه السلسلة ).

2. التصريف الوسيط (الثاني):

هذا النوع من التصريف تخضع فيه أصوات الجذر الثلاثي لعملية تباديل ينتج عنها ستة جذور ثلاثية من حروف ثلاثة لا تتغير؛ مثل (نفس، نسف) و(فنس، فسن) و(سنف، سفن) من حروف الجذر (ن، ف، س). وينشأ احتمال أن واحداًًًً من هذه التباديل أو أكثر لم يستخدمه المجتمع العربي في ماضيه ولا في حاضره. ولكن هذا التبديل (الجذر) غير المستخدم يظل كامناً ليظهر في التداول العربي عندما يرى المجتمع أن هناك شيئاً أو مفهوماً جديداً تنطبق سماته على حركة دلالة ذلك الجذر الكامن. وهذه الجذور الكامنة لا توجد في المعاجم ولكنها قد توجد في إحدى اللهجات العربية سواء كانت متداولة حاضراً أو منقرضة ولكنها مكتوبة.
تنشأ دلالة حقلية لهذه التباديل من دلالات الحروف الثلاثة ولكن الترتيب يفرعها إلى دلالات مجالية (محورية لجذرها الجديد) تربطها دلالة المنشأ بالحقل الأساسي.
وإذا انعكس الترتيب تماما مثل (كتب، بتك) و(كبت، تبك) و(تكب، بكت) فتنشأ دلالات ضدية من نفس دلالات الحروف لتدل على حركتين متضادتين من نفس العناصر. والدلالة الحقلية العامة تسمى مجالية إذا نظرنا إلى علاقة الجذر بالدلالة الحقلية لحروفه (دون ترتيب) ولكن هذه الدلالة المجالية هي نفسها دلالة محورية لجذرها القائم بذاته حيث تتصرف منه دلالات فرعية أخرى لأوزانه المختلفة وتقوم هذه الدلالات الفرعية على الدلالة المحورية للجذر.
ويمكن أن يفيدنا هذا التصريف عن طريق الدلالات الحقلية المتداخلة في معرفة معاني الألفاظ التي وردت مرة وحيدة في القرءان جذراً وصياغةً وعددها في القرءان 395 حسب معجم الفرائد القرءانية للأستاذ باسم البسومي.
وهذا التصريف الوسيط هو الذي دعاه ابن جني بالإشتقاق الأكبر.

3. التصريف الكبير (الثالث):

هنا في هذا النوع من التصريف ننظر إلى الحروف المشتركة بين جذرين لا تتطابق حروفهما. والتشارك يكون بين الجذرين في حرفين أو حرف واحد.
فالإشتراك في حرف واحد وهنت فيه حركة الدلالة التي تجمع بين الجذرين ولكنها موجودة، وهذا هو النوع الثاني من هذا التصريف الكبير، ولن نوليه هنا أهمية.
أما النوع الأول من التصريف الكبير فهو الذي يشترك فيه الجذران في حرفين ويختلفان في حرف واحد ويكون هذا التشارك إما بالتغيير المتناظر أو بالتغيير غير المتناظر.
أ. التغيير المتناظرللنوع الأول من التصريف الثالث:
يكون التغيير هنا إما متناظراً في الحرف الأول من الجذرين مثل (رتق وفتق) أو في الحرف الثاني مثل (رهب ورعب) أو في الحرف الثالث مثل (بتر وبتك). وهنا أمثلة أخرى من لسان القرءان.
أمثلة للتناظر الأول هي {أجر، تجر، حجر، سجر، شجر، فجر، هجر}.
أمثلة للتناظر الثاني هي {نفس، نجس، نكس}.
أمثلة للتناظر الثالث هي {نفخ، نفس، نفق، نفر، نفل، نفع}.
وتتقارب الدلالة في التناظر الثالث حيث أن الحركة هي نفسها في البداية وتخصصت نفس الحركة في الوسط ولكنها اختلفت في اتجاهها الأخير. أما في التناظر الثاني فتبدأ الحركة متشابهة في البداية ثم تتخصص هذه الحركة في الوسط تخصصا مختلفاً بين الجذرين ثم يتشابه في هذا التناظر مفعول الحرف الثالث على تخصص الحركة نتيجة الحرف الثاني ولكن في اتجاهين غير متماثلين. وفي التناظر الأول تختلف الحركة ابتداءاً ولكن يتشابه التخصص المتتابع لها.
ب. التغيير المتخالف للنوع الأول من التصريف الثالث:
عندما نأخذ جذر (ع، ق، ل) ونغير القاف من الرتبة الثانية إلى الرتبة الأولى واللام من الرتبة الثالثة إلى الثانية فيصبح عندنا ثنائي (ق، ل، ...) ثم نضيف الباء بدلاً من العين في الرتبة الثالثة فتكون النتيجة
(ق، ل، ب). والسؤال ما هي الدلالة المشتركة بينهما، أي بين عقل وقلب؟ تلك هي الدلالة الناتجة عن دلالات القاف واللام ولكن يعمل على تقليل المشترك بينهما عاملان ، الأول هو الترتيب المختلف للأصوات حيث تختلف نواتج الحركة، والثاني اختلاف دلالة الحرف المختلف بينهما (العين والباء).
الخلاصة
هذا بإختصار أرجو ألا يكون مخلاً نظام التصريف في اللسان العربي في عمومه وتقسيمه من غير نظر في ما يرتبط به من مواضيع كثيرة مهمة تحتاج إلى معرفة واسعة وشاملة بالعلوم الإدراكية. وقد ذكرت تقريباً كل أصناف التصريف في اللسان العربي ضمن نظامه.
وللبدء في تأسيس اللسانيات القرءانية يمكن أن يتعاون الباحثون في وضع منهجٍ للتصريف الأول يمكِّنُنا من استثمار طاقات وخصائص هذا التصريف في تدبر القرءان العظيم في وقتنا المعاصر. أما التصريف الثاني فيحتاج إلى جُهد من علماء لسانيات لهم معرفة واسعة بعلوم الحاسوب والهندسة وربما غيرها.وفي التصريف الثالث يمكن أن نبدأ بالتناظرين الأول والثالث من النوع الأول لنرى حركاتٍ مختلفةً للدلالة في حقول مشتركة. والله أعلم.

وفي ما يلي بعض المصطلحات التي وردت في المقال ومقابلاتها الإنجليزية:
اللسان العربي     :Arabic Tongue
لسان العرب      :Arab Tongue
لسان القرءان      :Quran Tongue
الدال              :Signifier
الدلالة            :Semantics
التداول            :Pragmatics
التصويت         :Phonetics
التصريف                   :Morphologization
التركيب           :Syntax

حسن الترابي وتدبر القرءان - فقه الطلاق غير فقه الفراق ..


بقلم: عمر محمد سعيد الشفيع

 
الأربعاء, 10 شباط/فبراير 2010
 (1) زبدة المقالة في بدايتها:
{الإيلاء والتربص/الطلاق والعدة والأجل/القرء والشهر/الفيء والإمساك بمعروف والرد/الزوج والبعل/الفراق بمعروف والتسريح بإحسان}. هذه هي أهم مفردات فقه الطلاق وفقه الفراق في القرءان العظيم، وهذه المقالة لا تناقش كل هذه المفاهيم تفصيلاً ولكنها سوف تقتصر على بعضها فقط في سياق مفاتشة التفسير التوحيدي في تدبره لفقه الطلاق. وإليك عزيزي القارئ زبدة المقالة (فقه الطلاق غير فقه الفراق في القرءان العظيم) في بدايتها ثم نناقش بإختصار أيضاً ما ورد في التفسير التوحيدي عن هذا الفقه.
وباسم الله نبتديء.
أولاً ـ ما معنى الطلاق؟
الواضح من آيات القرءان أن الطلاق ـ في تعريفه ومفهومه ـ هو عملية أزمة إنتقالية في حياة الزوجين، حياة السكن والمودة والرحمة، محددة الوقت حسب المرأة سواء كانت من اللاتي يحضن أو اللاتي لا يحضن، وتنتهي هذه الفترة الإنتقالية إما إلى إعادة الحياة الزوجية لسابق عهدها وميثاقها الغليظ إمساكاً بمعروف أو إلى إنهاء تلك الحياة الزوجية فراقاً بمعروف أو تسريحاً بإحسان/بمعروف. وحسب لسان القرءان هناك فرق بين المرأة المطلَّقة في عدتها والمرأة المردودة من أجل ولدها والمرأة المسرَّحة. وعملية الطلاق تدخل أصالةً في أمور النساء التي يفتينا فيها الله سبحانه وتعالى <وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ> ولاحظ ـ أيها المتدبر الواعي ـ أن الفعل "يفتيكم" يرد هنا مستمراً متحركاً يشمل كل أمور النساء في جميع أوقاتها. وفقه الطلاق ورد معظمه فتوى من الله في سورة البقرة وقليله في سورتي الأحزاب والطلاق. وأهم أركان فقه الطلاق هو تعيين حدود الله فيه لنتعرَّفها ولا نتعداها حتى لا نكون من الظالمين. والطرف الأصيل في تعيين حدود الله في الطلاق هو المرأة الزوج ولكن الخطاب موجّه إلى الزوجين من جملة الجماعة التي يتوجه إليها الخطاب في فقه الطلاق. والطلاق أطرافه متعددون، أولهم الزوجان ومنهم الأهل ومنهم الشهود وقد يكون منهم القاضي. وعلينا ألا نخلط، عزيزي المتدبر، بين ألفاظ "الطلاق" و"الإمساك بمعروف" و"التسريح بإحسان وبمعروف" و"الفراق بمعروف" والفصال" و"الرد" لأن هذه الألفاظ ، مرة أخرى، هي ألفاظ قرءانية مباركة فيها ووراءها قِيَم علينا أن نقيمها وأحكام علينا أن نحتكم إليها.
ثانياً ـ حدود الله
تذكر "حدود الله" دائماً جمعاً في القرءان دون ذكر المفرد وهذا يحتّم علينا أن نعرف هذه الحدود حسب سياق الآيات التي تذكر فيها. وهذا المركب الإضافي "حدود الله" ورد في القرءان إثني عشرة مرة في السياقات الدائرة حول الصيام (مرتان) والطلاق (ثماني مرات) والميراث (مرة واحدة) والحفاظ عليها ـ أي حدود الله ـ (مرة في التوبة) مقترنةً بالقتال في سبيل الله قبلها. وعندما يريد القرءان تحديد جزء من هذه الحدود وتعيينها فهو يورد مركب "تلك حدود الله" الذي تكرر ست مرات في القرءان.
حدود الله في الطلاق
وآيات سورة البقرة تتكامل مع آيات سورة الطلاق في إضاءة كل مشاهد عملية الطلاق والتربص فيها وبلوغ أجلها. و"حدود الله" في سياق الطلاق في سورة البقرة (ست مرات) وردت عامة تدل على حدود الله في إطلاقها ـ وعلى المؤمن إقامتها ـ "إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ"، ووردت أيضاً في خصوص الطلاق بتعيين حدود الله الخاصة به والإشارة إليها باسم الإشارة "تلك" في تركيب "تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا" ثم ترجع الآية لتعمم الأمر بعدم التعدي على حدود الله في الطلاق ليكون أمراً عاماً بعدم تعدي حدود الله في عمومها وإطلاقها "وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" ومن يرتكبون هذا التعدي على حدود الله فقد دخلوا مجموعة الظالمين وأصبحوا مجموعةً جزئية فيها.
والآن تعالوا لنرى ما هي حدود الله في الطلاق؟
وكما قلنا فإن آيات سورة البقرة في الطلاق تتكامل مع آيات سورة الطلاق ومن هذه الآيات مجتمعة يمكن تحديد حدود الله في الطلاق وأدناها ثلاثة حدود ـ أقل الجمع ـ وبتتبع الآيات نرى أن حدود الله في الطلاق قسمان هما (أ) الحدود الخاصة بإحصاء العدة و(ب) الحدود الخاصة ببلوغ الأجل.
أما حدود الله الخاصة بإحصاء عدة الطلاق فهي:
(1)     الحصول الفعلي للطلاق بدلالة ورود الأداة "إذا" التي تفيد أن الفعل بعدها لا بد أن يحدث <يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء> مقابل الأداة "إنْ" التي تفيد الإحتمال في حدوث الفعل بعدها. والآية تعليمية تشريعية بدلالة مخاطبة النبي الذي يعلمنا شريعة الرسول.
(2)     مدة الطلاق هي العدة حتى نهايتها بدلالة "اللام" في <فَطَلِّقُوهُنَّ لِـعِدَّتِهِنَّ> ولم يقل القرءان "فطلقوهن في عدتهن". والعدة مرتبطة بالأجل وتتطابق معه إلا في حالتين من حالات المرأة المطلقة الحامل حيث تنقضي العدة قبل الأجل أو بعده.
(3)     إحصاء العدة ولاحظ وقوع الإحصاء على العدد في أمرنا بالدقة في مراعاة هذا الحدّ الذي أهملناه مع أنه من "حدود الله" التي لا ينبغي لنا أن نتعدَّاها <وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ>. وإحصاء العدة يكون بالقرء للمرأة الحامل والمرأة التي في طور المحيض أو بالشهر للمرأة التي يئست من المحيض والمرأة التي لم تحض.
(4)     تقوى الله ربنا في عدم إخراج المطلقات من بيوتهن <وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ>.
(5)     إخراج المطلقات من بيوتهن في حالة فاحشة مبينة <وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبيِّنَةٍ>.
وأما حدود الله الخاصة ببلوغ الأجل فهي:
(1)     البلوغ الفعلي للأجل بدلالة "إذا" في <فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ>. وبلوغ الأجل يعني إنتهاء فترة العدة أو وضع الحمل.
(2)     في لحظة بلوغ الأجل فالخيار يكون بين الإمساك بمعروف أو الفراق بمعروف <فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ>، ويكون بالرد في حالة البعل ومطلقته الحامل التي لم تبلغ أجلها عند إنتهاء عدتها.
(3)     الإشهاد على الطلاق وعلى الإمساك أو الفراق وإقامة الشهادة <وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ>. والأمر بالشهادة واضح وصريح ولكننا أهملناه في حياتنا وفي تشريعاتنا.
ويرى عدنان الرفاعي (حوار أكثر من جريء ـ المعجزة الكبرى) أن العدة والأجل يتطابقان بالنسبة للمرأة المطلقة التي في طور الحيض، وكذلك المرأة التي يئست من المحيض، وكذلك المرأة التي لم تحض، ولكنهما يفترقان بالنسبة للمرأة الحامل. وعدة المرأة الحامل والمرأة التي في طور الحيض حددها الله بالقُرْء (ثلاثة قروء، والقرء هو دورة الإخصاب الجنسي) وعدة المرأة التي يئست من المحيض والمرأة التي لم تحض حددها الله بالشَّهْر (ثلاثة شهور). والقروء الثلاثة يجب إكمالها ـ حيث أن الأمر بها يشمل جميع النساء ـ حتى في حالة المرأة الحامل التي إما أن ينقضي أجلها قبل إنقضاء عدتها ـ حالة أولى ـ حيث تكون الولادة قبل إنقضاء القروء الثلاثة وفي هذه الحالة تنتظر مع مولودها في بيت بعلها الذي يكون مطمئناً على مولوده لأنها تعيش معه في بيتها؛ أو تنقضي عدتها قبل إنقضاء أجلها الذي هو وضع حملها ـ حالة ثانية ـ وفي هذه الحالة يحذرها الله أن تكتم ما في رحمها لأن الأجل يستمر بعد العدة وهنا أُعطي البعل حق ردها إن خشي على مولودهما لأن المرأة يمكنها أن تغادر بيتها بعد إنقضاء عدتها. ولاحظ أن القرءان استخدم لفظ "الرد" وليس الإمساك تمييزاً لهذه الحالة لأن الأجل لم يُبلغ ولم تفقد المردودة حقها في الفراق حيث أن أجلها هو وضع حملها "وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن"، والمسألة مسألة رد حتى بلوغ الأجل فإما إمساك أو فراق.
و"حدود الله" تتكامل مع "آيات الله" ومع "أمر الله"، وما عليك عزيزي المتدبر إلا أن تنظر هذه المفاهيم مباشرةً في القرءان العظيم وتتدبرها.
 (2) نقاش التفسير التوحيدي في فقه الطلاق
قسَّم حسن الترابي سورة البقرة في تدبره لها إلى ثلاثة وعشرين جزءاً أطولها الجزء الذي تدبر فيه الآيات من مئة وتسعين حتى مئتين وعشرين جملةً واحدة كما ذكرنا في المقالة الأولى ويأتي بعده في الطول الجزء الذي تدبر فيه الآيات من مئتين وواحد وعشرين وحتى مئتين وإثنين وأربعين (من ص 169 إلى ص 183) وهي موضوع هذه المقالة. وخيراً فعل حسن الترابي في جعل هذه الآيات حزمةً واحدة في الربط بينها لتدبرٍ في ترتيلٍ متصلٍ مما يدل على يقظته في إلتقاط المعاني وتوحيدها، والآيات دلَّت أصلاً على وحدة ترتيلها بذكر تبيين آيات الله لمن يتذكَّر في بدايتها <... وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ> وتبيين آيات الله لمن يعقل في ختامها <كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ>. والترابي عالم في فقه المعاني ومنشغل به ويرى أن المسلمين أضاعوا كثيراً من معاني الدين واكتفوا بالأشكال والصور يرددونها لغواً دون فقه معانيها.
ويحق لنا أن نتدبر هذه الآيات جملةَ ترتيلٍ واحد ذلك لأنها تضع حدود الله في فقه النكاح بداية عقد الأسرة وفقه الطلاق في سيرورة الأسرة الذي يقود إما إلى الإمساك بمعروف أو التسريح بمعروف. والترابي أبدع في تدبر هذه الآيات وربطها ببقية معاني السورة في الجزء الذي خصصه لترتيل المعاني آيةً آية وفي الجزء الذي ذكر فيه عموم المعاني لهذه الآيات.
والآن نأتي إلى نقاش التفسير التوحيدي ونبدأ بملاحظة في أسلوب البيان عند الترابي فهو يحاول أن يستخدم ألفاظ القرءان بدقة ويقتصر عليها في عملية التدبر ويكاد ينجح في ذلك لولا تبحره في فقه الأحكام التقليدي الذي يؤثر عليه أحياناً قليلة فيستخدم المصطلح الخاص بالفقه التقليدي دون وعي منه ـ على ما أظن ـ حتى إن كان هذا المصطلح لا وجود له في القرءان مثل إستخدامه لمصطلحات "المهر" و"الخلع" و"النجاسة" رغم أن القرءان لم يرد فيه لفظ (المهر) ولا لفظ (الخلع) وتختلف الدلالة (للنجاسة) بين لسان القرءان ومصطلح فقه الأحكام.
الآية مئتان وواحد وعشرون: الخطاب في هذه الآية موجَّه إلى المؤمنين أمراً صريحاً ألا يتزوجوا من المشركين وألا يزوجوهم والآية لم تفرق بين نساء المؤمنين ورجالهم في هذا الأمر "ولا تنكحوا ..." ولكنها فصلت في المشركات "ولا تنكحوا المشركات ..." والمشركين "ولا تنكحوا المشركين ..." . والترابي قيَّد معنى الآية في مجتمع المدينة ومكة بقوله أن المشركين في مصطلح القرءان هم أهل الجاهلية العربية وبحديثه عن علاقات القرابة بين مجتمع المدينة المسلم ومشركي مكة التي تدفعهم للزواج وبحديثه عن الأمَة بمعنى (بنت الرق) وعن العبد بمعنى (العبد المملوك) كما جاء صريحاً في لفظه. والذي فعله الترابي تدبر فرقاني مطلوب في خصوصيته لمجتمع المدينة في تجربته الإسلامية الأُولى ولكن الأَوْلى بنا منه هو التدبر القرءاني الذي يطلق معاني الآية لكل مجتمع مؤمن من أي مِلَّةٍ كان ويوضح للمؤمنين في تلك الملة أن الزواج الذي هو حياة توحيد بين الزوجين لا ينبغي له أن يكون مع مشرك أو مشركة. وفي الآية وصف للأَمَة بأنها أَمَة مؤمنة أو أمَة مشركة بيد أن الآية لم تكرر الموصوف واكتفت بتكرار الوصف وفيها أيضاً وصف للعبد بأنه عبد مؤمن أو عبد مشرك ولم تكرر الموصوف لأن العبارتين متقابلتان ـ تركيبان متقابلان ـ وهما:
< وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ>
< وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ>
وألفاظ الآية تدل على المعنى العام الذي يخص الناس في جميع أوقاتهم وجميع ديارهم وهذا العموم يمكن أن يشمل معنى تاريخياً كان سائداً في مجتمع المدينة ومكة ولكنه أصبح في ذمة التاريخ ومثال ذلك لفظ العبد الذي يدل في القرءان على واحد الناس في عبادته لله طاعةً أو معصيةً وكذلك الأَمَة وهي المرأة في وصف لها تنتقل به إلى الأُم التي هي أصل الأُمَّة.
الآية مئتان وإثنين وعشرون: تكلم الترابي عن هذه الآية كلاماً نفيساً ربط فيه بين الواو في أول الآية وبين توالي الأسئلة عن شؤون المجتمع والمضي في السياق إلى شؤون الأسرة بعد آثار اليتم وحدِّ مدى التزاوج بالإيمان وربط أيضاً بين الطهارة ونية التعبد لله توبةً للصراط المستقيم بعد كل وقفة. ونزيد على ذلك أن الفعل "يسألونك" يربط الآية بآيات "يسألونك ... قل" والإجابة جزء من فتوى الله في النساء. وتعبير "فاعتزلوا النساء في المحيض" يدل أيضاً ـ إضافةً إلى معناه المعروف ـ على أن إتيان النساء يكون في المهبل (القُبُل بتعبير القدماء) الذي هو أحد أعضاء الحيض (الحيض متضمن في المحيض) وبتحديد مكان الإتيان في هذه الآية تكون الآية التالية لها لا تتحدث عن مكان الإتيان وإنما عن أمر آخر سوف نراه. وفي الآية فرق بين الطُّهْر "حتى يَطْهُرن" وبين التَّطَهُّر "فإذا تَطَهَّرْن" حيث أن الطُّهْر هو العملية الفيزيولوجية الطبيعية لإنقطاع الحيض في فترة المحيض (زمان الحيض) والتطهر ـ لاحظ تاء الجهد والتضعيف ـ هو العملية الإيمانية الدينية في النظافة الحسية والمعنوية، والله يحب المتَطهِّرين. والإتيان من حيث أمر الله بعد التطهر في آخر الآية بيانه في أول الآية في مكان الحيض.
الآية مئتان وثلاثة وعشرون: هذه الآية تتحدث عن "نساؤكم حَرْث لكم" ويقول الترابي "الآية تصف الزوجة بالحرث للبشر حيث تودع فيه بالغرس البذور وتنتظر الثمرة"، وكان يمكننا أن نتوقع أن الترابي سوف يصل إلى مدلول الآية بعد هذا التدبر الذي اقترب فيه من مقصود الآية لولا أن التراث التفسيري قد أثر عليه وجعله يرجع إلى فهم الآية بأنها تتحدث عن المباشرة الزوجية حيث يقول " وتخاطب الآية المؤمنين أن ائتوا الحرث أنى شئتم لأن الله لم يضع عليكم قيوداً وعنتاً في المباشرة الزوجية سوى التطهر من الحيض". لاحظ ـ أيها المتدبر العزيز ـ أن الآية قالت (فأتوا حرثكم أنى شئتم) ولم تقل "فأتوا نساءكم أنى شئتم" وهذا يدل أن المقصود هو الأطفال الذين هم حرث النساء لكم كما قالت وبذلك نعرف أن الآية تتحدث عن إنجاب الأطفال المرتبط بالمشيئة (الحرية وتنظيمها) وليس عن المباشرة الزوجية التي تحدثت عنها الآية السابقة لها.
الآيتان مئتان وستة وعشرون ومئتان وسبعة وعشرون: تتحدث هاتان الآيتان عن الذين يؤلون من نسائهم وتوجب عليهم التربص أربعة أشهر بدلالة اللام في بداية الآية الأولى"للذين يؤلون ..." وهذه اللام تذكرنا باللام في آية "ولله على الناس حج البيت ..." إلا أن الواجب في الحج اشترطت فيه الاستطاعة وفي الإيلاء لم يشترط فيه شيئ مما يدل على أن المؤلين يجب عليهم إكمال مدة الأشهر الأربعة، وعند إكمال المدة أمامهم إحتمالان إما أن يفيئوا ويرجعوا إلى أزواجهم أو أن يعزموا الطلاق، وهاتان هما الآيتان < لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ. وَإِنْ عَزَمُواْ الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ> ولاحظ الأداة "إن" الدالة على الإحتمال بين الفيء أو الطلاق. والتفسير التوحيدي تابع التراث التفسيري وجعل مدة التربص تنتهي أثناء الأشهر الأربعة " فإن فاء الذين يؤلون رجوعاً عن ذلك القسم في تلك الأثناء وتجاوزوا بزواجهم تلك الأزمة ...". والفيء هو الإمساك بعد فترة الإيلاء كما أن الرد هو إمساك المطلقة الحامل. والطلاق في حالة الإيلاء يقع بين الفيء والفراق.
الآية مئتان وثمانية وعشرون: تبدأ الآية بالواو ربطاً لها بالآية السابقة وهذا يعني أن المؤلين من نسائهم "إن" عزموا الطلاق ولم يختاروا أن يفيئوا فعلى المطلقات أن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، وبما أن التربص يشمل الزوجين فإن مدة تربص المطلقة ـ في حالة الإيلاء ـ تكون أربعة أشهر وثلاثة قروء بيد أن الآية عامة وتشمل المطلقة من غير إيلاء ومدتها ـ في هذه الحالة ـ هي ثلاثة قروء. وهذه الآية تتكامل مع أول آيتين من سورة الطلاق حيث تشرح أول آية منهما أن الطلاق مرتبط بإكمال العدة التي هي هنا ثلاثة قروء "فطلقوهن لـعدتهن" وإحداث الأمر المذكور في ختام الآية يكون "بعد ذلك" أي بعد إنقضاء العدة وليس قبلها ولا في أثنائها <لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا>. وهذه القروء الثلاثة وجب على الزوجين اللذَّيْن عَزَمَا الطلاق أن يكملاها في حالة تربص بعيداً عن المعاشرة الزوجية، والزوج إن كانت مطلقته حاملاً سمته الآية بعلاً حيث أنه يقوم على أمور مطلقته الحامل وله حق ردِّها، إن أراد، في حالة لم تبلغ أجلها عند إنقضاء عدتها. وغير لفظ "البعل" فقد انفردت الآية أيضاً بلفظ "الرد" الذي يعني حق البعل في رد مطلقته الحامل في حالة إنقضاء عدتها (ثلاثة قروء) قبل إنقضاء أجلها (وضع حملها) والرد غير الإمساك الذي لا يكون إلا عند بلوغ الأجل، والمردودة التي لم تكتم ما خلق الله في رحمها لا تفقد حقها في الفراق عند بلوغ أجلها إن أرادت ذلك. والتفسير التوحيدي تابع التراث في تدبره لهذه الآية ويمكن الرجوع إلى نصه في صفحتي 172 و173.
وبقية آيات هذه الحزمة الترتيلية من التدبر حتى الآية مئتين واثنين وأربعين يمكن الرجوع إليها مباشرة في التفسير التوحيدي الذي وُفِّق في ربطها بمعاني الدين ومقاصده وتجديد التدبر في بعض أجزائها. وطريقة التفسير التوحيدي في التدبر تصلح لعامة المثقفين وطوائف المتعلمين حيث أنه يهتم بالمقاصد والقيم في الآيات وربطها بالحياة العامة، لكنه يخلو في بعض تدبره من التدقيق والتركيز في ألفاظ الآية وتراكيبها وربطها ببقية الألفاظ والتراكيب المشابهة لها في القرءان العظيم مما يقود إلى معانٍ جديدة في التدبر سواء في حقل القيم التي أبدع التفسير التوحيدي في ربط معانيها ومقاصدها أو في حقل الأحكام التي لم يفلح هذا التفسير في تجديدها مثلما أفلح في القيم والمقاصد .
وبالله التوفيق والله أعلم.

الجمعة، 26 أغسطس 2011

الفرق بين صيغة التحريم وصيغة النَّهْي في القرآن


بقلم سامر الإسلامبولي
إن الدارس لأسلوب التشريع في القرآن يجد أن الشارع تارة يستخدم كلمة التحريم نحو قوله تعالى ( حُرمت عليكم أمهاتكم ) (النساء 23)، وتارة أسلوب النَّهْي عن الفعل، نحو قوله: ( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ..) (البقرة 222).
فهل كلّ حرام مَنْهيّ عنه، وكلّ مَنْهي عنه حرام؟
لنرَ ذلك من خلال دراسة الآيات التشريعية:
قال تعالى: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ) (الأنعام 152).
فهذا النصّ نهي عن الاقتراب من مال اليتيم، وهذا النَّهْي جاء بسياق النصّ الذي يتلو المحرَّمات؛ وهو قوله تعالى: (قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ) (الأنعام 151)، فيكون الحرام ضمن المَنْهِيَّات ضرورة.
قال تعالى:( ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ) (البقرة 222).
فهذا النصّ واضح في النَّهْي عن جماع المرأة أثناء المحيض، والوقوع بهذا الفعل يكون وقوعاً بالمحظور الشرعي، الذي يترتَّب عليه الإثم، ولكنه ليس من دائرة الحرام؛ فنصل إلى أنه لا يُشترط في المَنْهي عنه أن يكون من دائرة الحرام.
والنَّهْي يمكن أن يدخل في دائرة التحريم؛ نحو: أكلِ مالِ اليتيم، ويمكن أن يبقى خارج دائرة التحريم ضمن دائرة المَنْهِيَّات، نحو النَّهْي عن جماع المرأة أثناء المحيض.
إذاً؛ كلّ حرام مَنْهي عنه ضرورة، ويترتَّب على فعله الإثم، وكلّ مَنْهي عنه لا يُشترَط فيه التحريم؛ لإمكانية خروجه من دائرة التحريم إلى دائرة المَنْهِيَّات، و يترتَّب على فعله الإثم أيضاً.
فيوجد في التشريع دائرتان:
الأولى: دائرة التحريم، وتكون هذه الدائرة ضمن دائرة المَنْهيات، التي هي أكبر وأوسع من دائرة التحريم، ومتضمّنة لها، وكلّ الأمور في الدائرتَيْن فعْلُها غير مباح، ويترتَّب الإثم على مَنْ يفعلها، فما الفرق بين الحرام ، والمَنْهي عنه في التشريع؟
إن الدارس للآيات المتعلّقة بالحرام يجد أن حُكْمها أبديّ، غير قابل للفتح، أو السماح بممارسته، إلَّا بإذن شرعي عيني، نحو: السماح للمضطرّ بتناول الميتة؛ بقوله تعالى إنما حَرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن أضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة 173)، وما سوى ذلك فمُغلق غير مسموح بفَتحه، ولا بأيّ شكل، ومن هذا الوجه يظهر خطأ تطبيق قاعدة: (الضرورات تُبيح المحظورات) على دائرة المُحرَّمات؛ فهل هناك ضرورة لنكاح الأمّ، والمحارم؟! وهل هناك ضرورة لقَتْل الإنسان البريء؟! وهل هناك ضرورة لأَكْل مال اليتيم؟! وهل هناك ضرورة لأنْ يكون الإنسان مُرابياً؟!
أمَّا دائرة النواهي، نحو النَّهْي عن جماع المرأة أثناء المحيض، والنَّهْي عن تناول الخمر، وتعاطي الميسر؛ فهذه الأشياء لا شكَّ بعدم إباحتها، ولا شك أن الإثم يترتَّب على فاعلها، ولكنَّ هذه الأشياء خارج دائرة الحرام، وهي في دائرة النواهي، والفرق بينهما يكمن في أن دائرة النواهي يمكن فَتْحها من قِبَل الإنسان، إنْ تعرَّض للهلاك والخطر، وفي هذا الموضع تأتي صحَّة ممارسة القاعدة الكُلِّيَّة (الضرورات تُبيح المحظورات)، فهي محصورة بدائرة النواهي، دون دائرة المُحرَّمات، والضرورات تُقدَّر بقدرها، ولهذا الفرق والتمييز بين الدائرتَيْن، من حيث التعامل، لم يستخدم الشارعُ كلمةَ التحريم للنَّهْي عن الخمر، والميسر، والجماع للمرأة أثناء المحيض، وما شابه ذلك من المَنْهيات، ومن هذا الوجه، لم تأت مادة الخمر ضمن آية تحريم المطعومات: (قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنه رجس ) (الأنعام 145)؛ لأنها من المَنْهيات، وليست من المُحرَّمات، وبذلك يظهر لنا دلالة حرف ( إلا ) المسبوق بنَفْي، في نصّ المطعومات، وأنه يفيد الحصر لما جاء بعده، وغير قابل لزيادة أيّ شيء عليه، ممَّا يُعطى له حُكْم الحرام من الأمور، ومن هذا الوجه زال الإشكال عن مسألة الخمر، ولماذا انفردت بنصّ وحدها، غير نصّ تحريم المطعومات، وظهر لنا صحّة إغلاق نصّ تحريم المطعومات على ما ذُكِرَ فيه فقط، وظهر لنا أن الخمر من دائرة المَنْهيات، وليست من دائرة المُحرَّمات، وكلاهما يترتب على فاعلهما الإثم، والمعصية.