الأربعاء، 27 يوليو 2011

1-6 القصص والتاريخ

القصص والتاريخ
على الرغم من اتفاق قصص القرآن والتاريخ في عدد كبير من النقاط, إلا أنهما يختلفان في مسألتين رئيستين, تجعلها يتمايزان تمام التمايز:
الأولى: الدور المنوط به, فالدور الأول للتاريخ أن يعي ويدون ويسجل الأحداث, ويذكرها صراحة, ثم تختلف المعالجات الإنسانية لها, تبعاً للغاية التي يريد الإنسان أن يوظف التاريخ لها!! بينما لم يأت قصص القرآن ليكون ذاكرة البشرية, وإنما أتى ليدلل بأكثر النماذج بياناً على صدق دعواه, -والذي سماها "أحسن القصص"-, ولهذا لم يذكر أزمنة وقوع الأحداث التي يقصها, ولم يعرض لكل الأحداث البشرية ولم يذكر حتى كل الأنبياء, وإنما اكتفى بإشارات, تُعين البشر على معرفة هويتهم وتحديد وجهتهم. (وسنبين للقارئ الكريم على صفحات الكتاب, ضرورة قصص القرآن لمعرفة أصل الهوية)

وللعجب وجدنا من يعتبر هذا إبهاما فيقول:
"
والناظر في القرآن الكريم يجد أن القرآن في عرضه للقصص لم يهتم بجانب التفاصيل للأحداث أو أسماء الأشخاص, أو سرد كل الوقائع أو بيان الأمكنة والأزمنة, إنما كان اهتمام القرآن بإبراز المواقف التي تحوي الدروس والعبر والدلالات في حاضر الناس ومستقبلهم. لذا نجد القرآن لا يعرض إلا أقل القليل من أحداث القصة, ويترك الكثير من التفاصيل التي لا تفيد في التماس العظة والعبرة. لذا عرف الكاتبون في علوم القرآن لونا من ألوان هذه العلوم سُمي (مبهمات القرآن) ذكره السيوطي (911هـ) في النوع السبعين من إتقانه. وذكره الزركشي (794 هـ) في النوع السادس من برهانه.[1]" ا.هـ
ولست أدري بأي حق يعتبرون هذا من المبهمات, فهل قال لهم القرآن أنه كتاب تاريخ؟! وهل أمرهم أن يعرفوا ما لم يقله؟!

الثانية: اليقينية, فالتاريخ والتأريخ البشريان ظنيان, يعتريهما الكثير من العوامل التي تؤدي لا محالة إلى تراجع نسبة اليقينية والصدق فيهما, بينما "يختلف القصص القرآني عن التاريخ القائم على الظن في ثبوت الحدث, وعلى احتمال عدم وصوله كاملا للمؤرخ, واحتمال الخطأ في فهم المؤرخ, وعلى احتمال الهوى في عرضه, فيُعرض مدَلسا أو يُخفى بعضه ويُذكر بعضه, وعلى عدم دقة القنوات الإخبارية الناقلة للخبر, لما يعرض للبشر الناقلين من سهو أو نسيان أو لبس أو خلط أو هوى! 
يختلف القصص القرآني عن هذا كله في أنه قصص يقيني, قصص حق: "إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ .... [آل عمران : 62]", وهو قصص حق لأنه قُصَّ بالحق: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ..... [الكهف : 13]", وكونه قُص بالحق راجع إلى مزية لا يمكن أن تتوفر بحال لأي مؤرخ على وجه الأرض في أي زمان, -مهما حاز من الوسائل والأدوات- وهي أن القاص كان شاهداً, وهو عالم بالأسباب والمبررات والدوافع: "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف : 7]", فحتى لو كان المؤرخ شاهداً للحدث فهو شاهدٌ غير عالم! فلن يمكن لأي مؤرخ مهما كان أن يطلع على بواطن الأمور, وعلى ما يدور في نفوس الناس وعلى ما يحدث في اجتماعاتهم السرية! والقرآن العظيم في قصِّه بيّن كيف قص, فلقد قص بالعلم والحق والشهادة, وبيّن ماذا قص, فلقد قصّ حقا ولم يقص افتراء[2]" ا.هـ
وعلى الرغم من اختلاف غاية قصص القرآن عن التاريخ, فقد أبى أكثر الكاتبين حوله إلا أن يجعلوه كتاب تاريخ, اقتداءً بوهب بن مُنَبه, والذي سن لهم سنة سيئة, بتأليفه كتاب "قصص الأنبياء", فنزع القصص من سياقه وأغفل غايته! وقضى على استعلاءه على التوراة, فجعله تابعا لها! وأخذ يبين للناس, اعتماداً على التوراة, ما لم يذكره القرآن!! فسار من جاء بعده على الدرب, فوجدنا أن أوائل كتب التاريخ, التي ألفها المسلمون, أصبحت خليطاً من الدين والتاريخ! فتداخل قصص القرآن مع التاريخ, كما وجدنا مثلا في تاريخ الطبري "تاريخ الرسل والملوك" وغيره من كتب التاريخ[3]!!

واستمر الحال على هذا المنوال, إلى أن جاء المتأخرون فلم يعجبهم هذا التداخل, فرأوا أن يفضوا هذا التداخل, لا ليعيدوا القصص القرآني ليُقرأ في سياقه وإنما ليفردوا الكتابة حوله في كتب مستقلة, تحمل اسم قصص القرآن أو قصص الأنبياء, حيث الهدف منها هو تقديم القصص كقصة! وهكذا اكتفوا باستبعاد التاريخ, وأخذوا يعيدون صياغة قصص التوراة تحت اسم "قصص القرآن" بحجة أنه لا يمكن عرض قصص القرآن بدون التفاصيل التي تقدمها التوراة!! ولست أدري من قال لهم أنه من الواجب عليهم, أو حتى من المستحب, أن يعرضوا قصص القرآن كقصة!! ولست أدري كيف غفلوا عن قول الرب العليم:
" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة : 134]"
وبسبب إصرارهم على عرض قصص القرآن كقصة, تقدم بعض المعاصرين خطوة ... إلى الخلف!! فقال أن قصص القرآن لم يقع أصلاً!!



[1] همام حسن يوسف, سليمان في القرآن, -رسالة ماجيستر- ص.50.
[2] عمرو الشاعر, عائشة أم المؤمنين, العبقرية المفترى عليها, ص.37-38!
[3] ولا يعني هذا أننا نعيب على المؤرخ أن يجعل القرآن منطلقاً له في كتابته للتاريخ وتحليله لأحداثه, ولكنا نرفض أن يكون المستند هو التوراة ثم يُنسب المحتوى إلى القرآن, والذي جاء حاكما بخطئه أو مصححا له, فيسمى بقصص القرآن وهو منه براء!! كما نرفض أن يُعامل القرآن ككتاب تاريخ, محكوم عليه بالنقص والعوز, ومن ثم يُجعل تابعا لغيره! والذي يكمل ما لم يذكره!!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق