الأربعاء، 27 يوليو 2011

1-2 إشكالية المصطلح المعاصر

إشكالية المصطلح المعاصر
تعد إشكالية استخدام المصطلح في عصرنا الحديث من أبرز الإشكاليات التي يقابلها جل المتعاملين مع النص القرآني, لأنها تتطلب تمكناً لغويا من الباحث, يجعله قادراً على الفصل بين الاستعمال العربي القديم للكلمة والاستعمال القرآني لها, وبين المعاني التي طرأت لها بعد العهد النبوي وبين الاستعمال الاصطلاحي لها, الطارئ في عصرنا الحديث, والمستخدم في ثقافتنا المعاصرة! وقليلٌ هم من يفلحون في التملص من ربقة محاولة إسقاط المدلول الاصطلاحي على الكلمة القرآنية, أما الأكثرون فيجهدون أنفسهم من أجل إثبات أنه من الممكن قبول هذا المعنى مع القرآن, وأنه من أوجه "الإعجاز" البلاغي البياني للقرآن! وتظهر هذه الإشكالية كأبرز ما يكون في كتابات أرباب "الإعجاز" العلمي في القرآن, والذين غالباً ما يكونون من المتخصصين في المجالات العلمية, بينما يعانون من عجز حاد قبالة اللسان العربي, ومن ثم يأتون بالعجائب, التي تُشمت الأعداء وتضحكهم, وتقدم لهم مطاعن جاهزة في الكتاب العزيز!!
ولا تقتصر هذه الإشكالية على أفراد طائفة بعينها وإنما تلقي بظلالها على كل أفراد المجتمع الحديث, والذين دأبوا على استعمال كلمة بمدلول محدد, حيث يظل هذا التصور أو بعضاً منه مرافقا لهذه الكلمة في مؤخرة عقولهم أثناء تعاملهم مع الكلمة!! ونضرب لذلك مثلا بكلمة "أسطورة/أساطير", والتي هي من الكلمات كثيرة الاستعمال في المجال الأدبي بل وفي الحياة اليومية. فإذا نظرنا في تعريفات أهل الاختصاص لها, وجدنا أنهم لم يختلفوا عن العوام بشأنها, فقسموها إلى أنواع وأصناف عدة, وقدموا لكل صنف تعريف باعتبار المنظور الذي يُنظر به إليها, حتى أننا نجد أن الدكتور كارم محمود عزيز يسود في كتابه "أساطير العالم القديم" قرابة الخمس عشرة صفحة حول تعريفات الأسطورة! فيقدم لها تعريفات بالنظر إلى أصلها وبالنظر إلى مضمونها وبالنظر إلى سماتها وبالنظر إلى وظائفها!! مؤكداً أنه من الصعب تقديم تعريفٍ محدد للأسطورة, ويقدم لهذه التعريفات كلها بمقولة سانت أوغسطين: "إنني اعرف جيداً ما هي الأسطورة بشرط ألاّ يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سُئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ[1]" ا.هـ

إلا أننا –كغير متخصصين- نفهم أن المقصود بالأسطورة هو قصة تحكي أحداثا غير معقولة (خرافية) من المفترض أنها حصلت في الأزمنة الغابرة. فهل استعمل القرآن الكلمة بهذا المعنى؟! القارئ لعامة الكاتبين حول الكلمة يجد أنهم يؤيدون هذا القول, وذلك لأنهم وجدوا هذا المعنى في المعاجم اللغوية, فمما ذكره ابن فارس حول الكلمة: "أمَّا الأساطير فكأنها أشياءُ كُتبت من الباطل فصار ذلك اسماً لها، مخصوصاً بها. يقال سَطَّر فلانٌ علينا تسطيراً، إذا جاء بالأباطيل.[2]" ا.هـ
والسؤال هنا: هل ما قاله ابن فارس يتفق مع ما ذكره القرآن؟ إذا نظرنا في القرآن وجدنا أنه لا يؤيدهم فيما يقولون به, فأول ما يلحظه الناظر أن كلمة "أسطورة" لم تأت مفردة في الكتاب, وإنما أتت في تسع مواطن جمعاً ومضافة إلى "الأولين", فإذا نظرنا في هذه المواطن وجدنا الرب يقول حاكيا قول الكافرين:
"... حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام: 25]", "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ [الأنفال: 31]", "وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل: 24]", "لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83]", "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان : 5]"
والتخصيص بالإضافة إلى "الأولين" هو من أجل تمييزها عن "أساطير الآخرين", والأساطير جمع أسطورة, وهي الشيء المسطور, ولقد رمى المشركون الرسول بأنه كان يكتتب هذه الأساطير, فهم كانوا يريدون القول أن محمد وجد كتبا من كتب السابقين وهو ينقل عنها, فهم لا يعيبون في المحتوى ولا يرمونه بالباطل أو الخرافة ولا أنه مجموعة أكاذيب, وإنما ينفون عنه الأصالة, ويقولون أن هذا ليس بالجديد وإنما هو مأخوذ من كتابات السابقين الأولين! لهذا جاءت الكلمة مضافة دوما إلى "الأولين" ولو كان المراد من الأساطير الخرافة لرد الله مبيناً أنه لا تشابه بين الاثنين, فشتان الفارق بينهما, وهذا ما لم نجده وإنما وجدنا الرد يقول أنه ليس من عند محمد ولا غيره " قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان : 6]", فالقرآن كتاب أصيل من عند رب العالمين!
إذا وكما رأينا فالقرآن استعمل الكلمة بالمعنى الأصلي لها وهو "الكتابات المسطورة" ثم جاء اللاحقون فأسقطوا عليها معنى إضافياً ارتبط بها وأصبح هو الفهم المعتمد للمفردة القرآنية!! وكذلك لاقت الكلمة الرئيسة لموضوعنا "قصص" معاملة لا تليق بها ولا تتناسب مع محتواها, وذلك لأن الإنسان المعاصر فهم "القَصص" على أنه جمع قِصة, والقصة عمل أدبي, يختلف تصوره من شخص لآخر, إلا أنه يكاد ينحصر في عقول القراء في نقطتين: أنه عمل خيالي, فإن لم يكن خياليا, فهو عمل للعبرة والعظة أو ... الترفيه!! وعلى الرغم من أن القرآن لم يستعمل كلمة "قِصص" وإنما "قَصص", وكذلك لم يستعمل كلمة "قصة" قط, فإن ظلال ومتتبعات هذه الكلمة ستظل عالقة بذهن القارئ, حيث سينظر إلى قصص القرآن كما ينظر إلى أنماط القصص الأدبي, ثم يبدأ في تقسيمه إلى "القصة والرواية والحكاية والأقصوصة" والتعامل معه على هذا الأساس!! وعلى الرغم من أن القرآن نص سابق لهذه التقسيمات, إلا أنه يُفترض فيه أنه نص مطلق, فهل يمكن قبول هذه التصورات بشأنه؟!



[1] كارم محمود عزيز, أساطير العالم القديم, ص.19.
[2] أحمد بن فارس, معجم مقاييس اللغة, الجزء الثالث, ص. 72-73.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق