الخميس، 28 يوليو 2011

1-10 القصص والأحكام الفقهية

القصص والأحكام الفقهية


لم يقتصر السابقون في تعاملهم مع قصص القرآن على اعتباره مجرد قصص, وإنما أخذوا يستخرجون منه الأحكام الفقهية والعقائدية, وهو منهج سليم يُفعِّل آيات الله ولا يحصرها في زاوية واحدة, فوجدنا بعض العلماء يستدلون بطلب موسى رؤية الله: "وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : 143]", على استحالة رؤية الله في الدنيا, وقال بعضهم باستحالتها في الدنيا والآخرة.
واستدل آخرون بقوله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة : 4]", على عقيدة الولاء والبراء, واستدل غيرهم بأن التوحيد كان الأصل في حياة الإنسان ثم طرأ عليه الشرك, على العكس مما تقوله عامة الأبحاث عن الدين, والتي تدعي أن الدين بدأ بالتعدد ثم تطور إلى التوحيد, وهذا ما أثبتته الأبحاث الأخيرة[1]. كما استدل بعض الباحثين بقصة أصحاب الكهف على أن الكلب حيوان غير نجس ولا مذموم ولا حرج في اقتنائه!
وكما قلنا فهو مسلك طيب, إلا أنه يعيب بعض الآخذين به أنهم يستدلون بالآيات متى وافقت رأيهم, فإذا خالفت ما يقولون به ابتدأ التساؤل: هل شرع من قبلنا ملزمٌ لنا؟! لذا نقول: الأصل أنه كذلك ما لم يقم دليل على النسخ, والعبرة بما جاء في القرآن وليس ما ذكر في كتبهم, ومن ثم يجب العمل به ما لم يدل الدليل على أننا لسنا مخاطبين به.
فمن ذلك مثلاً ما قصّه الله عن الخليل في سورة هود: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ[2] (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)"

فهنا نجد أن امرأة الخليل قائمة على خدمة ضيوفها ويكلمونها وتكلمهم بل وضحكت أمامهم, ولم يعب الله عليها ذلك! ومن ثم يمكن القول أنه يجوز للمرأة خدمة أضياف زوجها والحديث معهم بدون أي حرج. 
والمشكلة أن الفقهاء لم يقتصروا على استخراج الأحكام من القصص, وإنما تعدوا ذلك إلى إيجاد أصل ل "الحيل الفقهية" في كتاب الله! فاستدلوا على جواز التحايل في دين الله بما قصّه الله عن سيدنا أيوب, وتحديداً قوله: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص : 44]"
فقالوا بجواز التحايل في دين الله, فالله الحكيم احتال لأيوب عليه السلام! ومن ثم يجوز التحايل حتى لا يُخالَف الحكم الشرعي ويُعمل به ظاهرا فقط! ولست أدري أين قالت الآية بهذا؟! 
وقولهم هذا راجع إلى جعل الرواية تفسيراً معتمداً لكلام الله, ومن ثم اعتبار ما جاء في الرواية هو المذكور في الآيات! فإذا نظرنا فيما أضافوه من عند أنفسهم ليصلوا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة وجدناهم يقولون: 
 مضمون الآية أن يأخذ سيدنا أيوب حزمة من نبات ما ويضرب بها زوجه حتى لا يحنث, أما لماذا يضربها فاختلفوا في سبب الضرب, ونورد ما ذكره الإمام الفخر الرازي تعليقا على ما ساقه المفسرون في تفسير! هذه الآية:
"واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، (ولست أدري كيف يدل هذا الكلام على تقدم يمين منه, فليس هناك أي إشارة إلى مسألة اليمين هذه! –عمرو-)  وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغّبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برأ، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، وهذه الرخصة باقية..[3]" ا.هـ
وليس في الآيات أي مستند لما يقولون, إلا إذا كانت التوراة تفسر القرآن, فهي التي قالت بهذا! أما الناظر في الآيات فيجد أن تطبيق الأمر بالأخذ والضرب أمر يتطلب الجلد والصبر, لذلك عقب الله تعالى بقوله "إنا وجدناه صابرا", فهل ضرب المرأة بحزمة من النبات يحتاج صبرا؟! ومن يتتبع السياق يجد أنه أُمَر أولا بالركض في قوله تعالى: "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ" ثم جاءت جملة خبرية اعتراضية هي قوله: "وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ" ثم اسُتكمل الأمر الذي يوضح له نهوضه من النصب وهو "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ".
ولا خلاف في أن المراد من الضغث هو حزمة النبات, ونقطة الخلاف هي كلمة الضرب, حيث قالوا: طالما أنه أمره بالضرب فلا بد من وجود مضروب. ثم أخذوا يبحثون عمن ضُرب بهذا الضغث! مع أن الآية وضحت أن المفعول به هو الضغث المأخوذ ولم تذكر أي مفعول آخر. وبما أنه لم يُذكر في الآية مفعول فلا يمكن أن نضع نحن مفعولا من عند أنفسنا, لذا نبحث عن معنى آخر من معاني الضرب يتناسب مع الضغث, فنجد أنه التجارة والحركة, وهذا المعنى لا يحتاج إلى مفعول فيمكنني القول "ضربت في الأرض" –وهذا استعمال صحيح وارد في القرآن– ولا أحتاج إلى مفعول مقدر, فالأمر أمر بالتجارة بشيء بسيط يبدأ به ثم يفتح له الله بعد ذلك. أما قوله تعالى "ولا تحنث" فليس المراد من الحنث هو عدم الوفاء بالقسم, فليس هذا هو المعنى الوحيد للحنث, فأصل الحنث ليس عدم الوفاء, فالحنث كما جاء في المقاييس:  حنث: الحاءُ والنون والثاء أصلٌ واحد، وهو الإثْم والحَرَج. يقال حَنِثَ فلانٌ في كذا، أي أثِمَ.[4]" ا.هـ 
وكما رأينا فالمعنى الأصلي للكلمة هو التحرج والإثم, وهو ينهى عن التحرج من الضرب بهذا الشيء البسيط. ويبدو والله أعلم أنه نفذ الأمر لذا قال إنا وجدناه صابرا على قضاء الله كله وعلى الأمر فنفذه. وفي الأمر بالتجارة لكي يعود الإنسان إلى سابق حاله إرشاد إلى إعادة بناء الإنسان نفسه بنفسه, لكي ينهض بنفسه من كبواته. 
إذا فليس في الآيات إقرار للتحايل ولا تعليم له, وإنما إرشادٌ للإنسان لما ينهض به من كبواته وينفض به عن نفسه ركام الماضي ... والمرض. لذا فعلى من ينظر ليستخرج أحكاماً فقهية أو عقائدية أن يدقق فيما قالته الآيات لا أن يأخذ بالتصورات الموجودة لديه مسبقاً!



[1] وفي هذا يقول باحثو جمعية التجديد الثقافية, في كتاب التوحيد عقيدة الأمة منذ آدم, ص48-49: "أما العلماء الملحدون فزعموا أن الإنسان منذ البداية يعتقد بتعدد الآلهة, وبقيت هذه النظرية سائدة لدى الكثيرين إلى أن دحضها الدكتور س. هربرت. وهو أحد أعلام الحفريات وأستاذ الدراسات الأشورية في جامعة أكسفورد, فقد قال هذا العلامة إن عقيدة التوحيد في الديانات "السامية (!) والسومرية قد سبقت العقيدة بتعدد الآلهة" ا.هـ

[2] الحنيذ كما جاء في تفسير مفاتيح الغيب للرازي: "أما الحنيذ: فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل كما قيل: طبيخ ومطبوخ، وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسمه. يقال: حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً."

[3] فخر الدين الرازي, مفاتيح الغيب, الجزء السادس والعشرون, ص. 188.
[4] أحمد بن فارس, مقاييس اللغة, الجزء الثاني, ص. 108.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق