الأربعاء، 27 يوليو 2011

1-9 العنصر المفقود


العنصر المفقود
اتفق أنصار المدرسة الأدبية المتناولون لقصص القرآن, على اختلاف قصص القرآن عن القصص التقليدي, فقالوا بوجود سمات فيه تختلف عن القصص التقليدي, إلا أن هذا لم يمنعهم المقارنة بين "القصص" القرآني وبين أصناف الكتابات الأدبية, محاولين إيجاد تصنيفات للقصص القرآني يندرج تحتها بحجة أنه نص أدبي, فقالوا بوجود أصناف من "القصص" في القرآن ليس لها وجود في القصص الأدبي, وقاموا بتصنيف عدد آخر تحت التصنيفات المقدمة للقصص الأدبية!! وينسى هؤلاء جميعا الاختلافات الكبيرة بين القصص القرآني وبين القصة الأدبية! التي تجعل من غير المقبول اعتبار القصص القرآني قصة أدبية!
أول هذه الاختلافات هو أن مؤلف الكتاب كاملا, بما يحتويه من القصص, ليس بشرياً, ومن ثم فمن غير المنتظر أن تأتي المؤلَف على مثل كتابات البشر, أو أن يأتي البشر بمثل ما جاء به!! والطرف البشري هو طرف ملقَّن, ولقد صرح المؤلف في بعض الأحيان أنه أعلم المستقبِل البشري "محمد" أنه أنبأه بأنباء لم يكن يعلمها لا هو ولا قومه. والإصرار على المقارنة والإدراج يعني أن النص بشري! ولا يعني بهذا أننا نمنع البحث في خصائص القصص القرآني وسماته, فهذا مطلوب, وإنما نرفض إدراجه تحت صنف لا يطابقه ولا يشمله!
فإذا تركنا مسألة المؤلِف وجدنا أن المادة المقدَّمة غير متفقة, فالقصص القرآني وقائع حقيقة حدثت في زمن من الأزمان, نُقلت كما وقعت, فهو قص بالحق! ومن المعلوم أن محتوى القصص خيالي مائة بالمائة, فإن كانت القصة الأدبية تستند إلى أحداث واقعية, فإن هذه الأحداث لا تكاد تُشكل إلا الإطار العام للقصة, بينما يكون الجزء الأكبر من الأحداث من خيال المؤلف! وهذا ما لا نجده في القصة القرآنية, فالقصص القرآني اقتطاع نعتي لأحداث سابقة. فالقصص القرآني أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب –مع تذكيرنا بأن القصص القرآني ليس تأريخاً-, فهو قائم أصلاً على اقتطاع أحداث بعينها وعرضها للتدليل على صدق دعواه! ناهيك على أن هناك ما اعتبره القرآن "قصاً" ولا يمكن اعتباره بحال قصة أدبياً, فمن ذلك: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ... [النحل : 118]", فهل يمكن اعتبار سرد أصناف المطعومات المحرمة قصة بأي شكل من الأشكال؟!
فإذا غضضنا الطرف عن هذه النقطة وجدنا أن القصة تقدم كقصة, طويلة كانت أم قصيرة, بناء مستقل له أهداف محددة أو حتى غير محددة, بينما يأتي القصص القرآني متخللاً آيات أخرى تتحدث عن الإيمانيات "العقائد" أو الأحكام الشرعية أو أنباء غيبية, أو يتخلله هو ذلك! فهل وُجدت قصة على مر الزمان يتخللها أي شيء آخر؟! من الممكن أن تحتوي القصة بداخلها قصة, أم أن تتداخل مع أجناس أخرى, فهذا ما لم يكن بحال!!
ولا يقتصر الأمر على التداخل وإنما يتعداه إلى التفريق, فنجد أن القصص القرآني يقص وقائع في أكثر من موطن, فيجمل أحيانا ويفصل أخرى, حسبما يقتضيه المقام والحال والموضوع المتناول في السورة, ولا يكفي المشهد الواحد المعروض في سورة من السور لأن يخرج الإنسان بتصور كامل عن هذه الوقائع, وإنما عليه أن يضع كل المشاهد بجوار بعضها حتى يكون ما يمكن تسميته بالقصة المترابطة الأحداث!! وغني عن الذكر أنه حتمٌ على من يُجمع المشاهد المنثورة في السور, لكي يُقدم ما يمكن تسميته بالقصة, أن يلتزم بالترتيب القرآني للأحداث, وأن يمعن النظر للوصول إلى الترتيب القرآني لها, ولا يكتفي بالعرض المألوف للقصة! لأنه ربما يكون قيل به تأثراً بروايات إسرائيلية أو بدون تمحيص كافٍ![1]
إلا أن هذا لا يكفي كذلك, فقد لا يؤدي وضع المشاهد المنتقاة من السور المختلفة والمتعلقة بموضوع واحد إلى تكوين قصة مكتملة الأركان! لأسباب عدة, منها أن القرآن لا يصرح أحيانا بترتيب وقوع حدث من الأحداث, وليس ثمة مرجح حاسم لزمان وقوعها! فهل تسمى مجموعة المشاهد التي قد (لا) تؤدي إلى تصورٍ ما, ولا يُجزم بترتيب وقوع بعضها, بقصة؟!
إن أقصى ما يفعله أرباب القصة عند قصّهم أحداثاً واقعية هو أن يغيروا من ترتيب عرض الأحداث, فيحدثون تداخلاً في أزمنة وقوع الأحداث, مقدمين إطاراً عاماً تدور فيه هذه الأحداث.  ولم يحدث أن أدخلوا في القصة ما ليس من جنسها, ولا أن اكتفوا بعرض مشاهد غير مرتبطة, فهذا لا يسمى قصة بحال! وهذا ما قدمه القرآن, فلقد قص وقائع موجَّهة لغايات محدودة, وأبينا إلا أن نفهمها كقصص!!






[1] فمن ذلك مثلاً أقوال المفسرين التي ذكرها الإمام الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب, الجزء الثالث, ص. 78-79., عند تناوله لقوله سبحانه: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة : 55]", والتي جعلت طلب رؤية الله جهرة بعد عبادة العجل! إلا أنها اختلفت في تحديد زمان الواقع!, فنجده يقول: "للمفسرين في هذه الواقعة قولان، الأول: أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل، قال محمد بن إسحاق: لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال, وحرق العجل وألقاه في البحر، اختار من قومه سبعين رجلاً من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى يسمعنا كلامه، فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه (...) فقال القوم بعد ذلك: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً (...) القول الثاني: أن هذه الواقعة كانت بعد القتل، قال السدي: لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً، فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وماتوا (....) واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم." ا.هـ
والقولان المجمعان على أن الحادثة كانت بعد عبادة العجل مخالفة لقوله تعالى: "
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً [النساء : 153]", والذي يصرح أن اتخاذ العجل كان بعد الأخذ بالصاعقة وليس قبله!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق