الأربعاء، 27 يوليو 2011

1-3 القـص

القـص

إذا أردنا أن نستخرج أدق تصور للكلمة, نرجع إلى المرجعين الأمينين: اللسان العربي والبيان القرآني, لننظر كيف جاءت الكلمة فيهما:

"القصص" مأخوذ من "القص", فما هو القص؟! إذا نظرنا في معجم "لسان العرب" لابن منظور, وجدنا أنه قد ذكر معان عدة للقص ومشتقاته, من أهمها: "قَصَّ الشعر والصوف والظفر يقُصُّه قَصّاً وقَصّصَه وقَصّاه على التحويل: قَطعَه. (....) والقَصُّ: أَخذ الشعر بالمِقَصّ، وأَصل القَصِّ القَطْعُ. يقال: قصَصْت ما بينهما أَي قطعت. والمِقَصُّ: ما قصَصْت به أَي قطعت. قال أَبو منصور: القِصاص في الجِراح مأْخوذ من هذا إِذا اقْتُصَّ له منه بِجِرحِه مثلَ جَرْحِه إِيّاه أَو قتْله به. الليث: القَصُّ فعل القاصّ إِذا قَصَّ القِصَصَ، والقصّة معروفة.
ويقال: في رأْسه قِصّةٌ يعني الجملة من الكلام، ونحوُه قوله تعالى: نحن نَقُصُّ عليك أَحسنَ القصص؛ أَي نُبَيّن لك أَحسن البيان. والقاصّ: الذي يأْتي بالقِصّة من فَصِّها. ويقال: قَصَصْت الشيء إِذا تتبّعْت أَثره شيئاً بعد شيء؛ (....) القِصّة: الخبر وهو القَصَصُ. وقصّ عليّ خبَره يقُصُّه قَصّاً وقَصَصاً: أَوْرَدَه. والقَصَصُ الخبرُ المَقْصوص، بالفتح، وضع موضع المصدر حتى صار أَغْلَبَ عليه. والقِصَص، بكسر القاف: جمع القِصّة التي تكتب. وفي حديث غَسْل دَمِ الحيض: فتقُصُّه بريقها أَي تعَضُّ موضعه من الثوب بأَسْنانها وريقها ليذهب أَثره كأَنه من القَصّ القطع أَو تتبُّع الأَثر؛ ومنه الحديث: فجاء واقْتصّ أَثَرَ الدم. وتقَصّصَ كلامَه: حَفِظَه. وتقَصّصَ الخبر: تتبّعه. والقِصّة: الأَمرُ والحديثُ. واقْتَصَصْت الحديث: رَوَيْته على وجهه، وقَصَّ عليه الخبَرَ قصصاً. وفي حديث الرؤيا: لا تقُصَّها إِلا على وادٍّ. يقال: قَصَصْت الرؤيا على فلان إِذا أَخبرته بها، أَقُصُّها قَصّاً. والقَصُّ: البيان، والقَصَصُ، بالفتح: الاسم. والقاصُّ: الذي يأْتي بالقِصّة على وجهها كأَنه يَتَتَبّع معانيَها وأَلفاظَها. (...) قال الأَزهري: القصُّ إتِّباع الأَثر. ويقال: خرج فلان قَصَصاً في أَثر فلان وقَصّاً، وذلك إِذا اقْتَصَّ أَثره. وقيل: القاصُّ يَقُصُّ القَصَصَ لإِتْباعه خبراً بعد خبر وسَوْقِه الكلامَ سوقاً. وقال أَبو زيد: تقَصّصْت الكلامَ حَفِظته. ...[1]" ا.هـ 
وإذا نظرنا في معجم مقاييس اللغة لابن فارس ألفيناه يقول: "القاف والصاد أصلٌ صحيح يدلُّ على تتبُّع الشَّيء. من ذلك قولهم: اقتصَصْتُ الأثَر، إذا تتبَّعتَه. ومن ذلك اشتقاقُ القِصاص في الجِراح، وذلك أنَّه يُفعَل بهِ مثلُ فِعلهِ بالأوّل، فكأنَّه اقتصَّ أثره. ..[2]" ا.هـ

وكما رأينا فابن فارس يرجع معاني "القص" إلى التتبع, بينما جعلها ابن منظور راجعة إلى "القطع أو الإتباع"! فإذا نظرنا في الكتابات التي تعالج قصص القرآن وجدناها تتبنى هذا التوجه, فتقول أن أصل القصص هو تتبع أثر الشيء, ومن ثم سُمي القصص قصصا لأنه يتتبع أنباء الأحداث!! ويستدلون على هذا الفهم بقوله تعالى: "قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً [الكهف : 64]", فيقولون أن موسى والعبد الصالح ارتدا يقصان آثارهما, أي يتتبعانها حتى يصلا إلى المكان الذي كانا فيه!! ولو كان معنى القص هو "تتبع الأثر" لما كان هناك حاجة إلى قوله "على آثارهما" ولقيل "فارتدا قصصا"! (ناهيك عن أن المراد من "الأثر أو الآثار" في القرآن ليس آثار الأقدام!)

كما يستدلون بقوله تعالى: " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [القصص : 11]", على أن المراد من القص هو تتبع الأثر, ولست أدري كيف يكون تتبعا للأثر وهي تراه بعينها!!

فإذا نظرنا في القرآن لنبصر كيف استعمل القرآن كلمة "القصص", وجدنا أنه استعملها بشكل أوسع من الذي نقول نحن به, فبخلاف التصور المألوف للقصص والمأخوذ من مثل قوله: "... فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص : 25]", نجد أن الله تعالى يقول: "قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام : 57]", "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَـذَا .... [الأنعام : 130]", "يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ....[الأعراف : 35]", "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف: 7]"

فكما رأينا فالله تعالى يقص الحق, والرسل يقصون الآيات, والملائكة ستخبر الناس بما عملوا في اليوم الآخر, ولا يقتصر الأمر على هذا وإنما يتعداه إلى اتجاه آخر, وهو "القصاص", فنجد الرب العليم يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى بِالأُنثَى ... [البقرة: 178]"
"الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ ... [البقرة: 194]"

فما هو الرباط الجامع الذي يربط هذه المعاني تحته؟! إذا نظرنا في ما ذكره ابن فارس بأعلى, وجدنا أنه قد اقترب من المعنى الصحيح كثيرا عندما قال في توجيهه لاندراج القصاص تحت القص: " وذلك أنَّه يُفعَل بهِ مثلُ فِعلهِ بالأوّل", وهذا هو محور معنى القص أو القصص, فليس المقصود بالقص التتبع, وإنما الأخذ من الشيء ما يماثله أو ما يدل عليه ويعرف به!

وظهر هذا الأخذ بالشكل المادي في القصاص بفعل نفس الشيء في الفاعل, وظهر بشكل مجرد في اللسان بأن يأتي الإنسان بما يشير إلى ما حدث ويعرف به, فكأن الإنسان بنعته الشيء قد أخذ صورة له, وبهذا فالله يقص الحق, والأنبياء يقصون آيات الله, أي أنهم يحدثون الناس عن آيات الله فيعرفونهم ويذكرونهم بها, والملائكة تقص على الناس في اليوم الآخر أي تذكر لهم ما صدر منهم, ولهذا قال الرب العليم: " وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ  فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ ...", ولم يقل "فتبعته عن قرب" لأن مراد الأم من الابنة أن تأتيها بخبر ابنها, وهذا يحتاج مراقبة ومشاهدة, وهي كانت تفعل هذا عن جنب.
إذا وكما رأينا فالقص هو قطع مخصوص من الشيء دال عليه, ومن ثم فمن اللازم وجود أصل حقيق "تُقتص" منه القصة!! ومن ثم يمكننا إسقاط الجانب الافتراضي الخيالي من القصص القرآني, والحكم بأن استعمال كلمة "قصة" كدال على أحداث مختلقة منشأة إنشاءً, استعمال غير صحيح, وسنيين لاحقا الكلمة التي ينبغي استعمالها كدال على هذا المدلول, ولأنواع القصة وهل يمكن إسقاطها على القصص القرآني.



[1] جمال الدين بن منظور, لسان العرب, الجزء الخامس , ص3650.
[2] أحمد بن فارس, مقاييس اللغة, الجزء الخامس, ص.11.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق