الخميس، 28 يوليو 2011

1-10 القصص والأحكام الفقهية

القصص والأحكام الفقهية


لم يقتصر السابقون في تعاملهم مع قصص القرآن على اعتباره مجرد قصص, وإنما أخذوا يستخرجون منه الأحكام الفقهية والعقائدية, وهو منهج سليم يُفعِّل آيات الله ولا يحصرها في زاوية واحدة, فوجدنا بعض العلماء يستدلون بطلب موسى رؤية الله: "وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَـكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف : 143]", على استحالة رؤية الله في الدنيا, وقال بعضهم باستحالتها في الدنيا والآخرة.
واستدل آخرون بقوله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [الممتحنة : 4]", على عقيدة الولاء والبراء, واستدل غيرهم بأن التوحيد كان الأصل في حياة الإنسان ثم طرأ عليه الشرك, على العكس مما تقوله عامة الأبحاث عن الدين, والتي تدعي أن الدين بدأ بالتعدد ثم تطور إلى التوحيد, وهذا ما أثبتته الأبحاث الأخيرة[1]. كما استدل بعض الباحثين بقصة أصحاب الكهف على أن الكلب حيوان غير نجس ولا مذموم ولا حرج في اقتنائه!
وكما قلنا فهو مسلك طيب, إلا أنه يعيب بعض الآخذين به أنهم يستدلون بالآيات متى وافقت رأيهم, فإذا خالفت ما يقولون به ابتدأ التساؤل: هل شرع من قبلنا ملزمٌ لنا؟! لذا نقول: الأصل أنه كذلك ما لم يقم دليل على النسخ, والعبرة بما جاء في القرآن وليس ما ذكر في كتبهم, ومن ثم يجب العمل به ما لم يدل الدليل على أننا لسنا مخاطبين به.
فمن ذلك مثلاً ما قصّه الله عن الخليل في سورة هود: "وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ[2] (٦٩) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (٧٢) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣)"

فهنا نجد أن امرأة الخليل قائمة على خدمة ضيوفها ويكلمونها وتكلمهم بل وضحكت أمامهم, ولم يعب الله عليها ذلك! ومن ثم يمكن القول أنه يجوز للمرأة خدمة أضياف زوجها والحديث معهم بدون أي حرج. 
والمشكلة أن الفقهاء لم يقتصروا على استخراج الأحكام من القصص, وإنما تعدوا ذلك إلى إيجاد أصل ل "الحيل الفقهية" في كتاب الله! فاستدلوا على جواز التحايل في دين الله بما قصّه الله عن سيدنا أيوب, وتحديداً قوله: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [ص : 44]"
فقالوا بجواز التحايل في دين الله, فالله الحكيم احتال لأيوب عليه السلام! ومن ثم يجوز التحايل حتى لا يُخالَف الحكم الشرعي ويُعمل به ظاهرا فقط! ولست أدري أين قالت الآية بهذا؟! 
وقولهم هذا راجع إلى جعل الرواية تفسيراً معتمداً لكلام الله, ومن ثم اعتبار ما جاء في الرواية هو المذكور في الآيات! فإذا نظرنا فيما أضافوه من عند أنفسهم ليصلوا في نهاية المطاف إلى هذه النتيجة وجدناهم يقولون: 
 مضمون الآية أن يأخذ سيدنا أيوب حزمة من نبات ما ويضرب بها زوجه حتى لا يحنث, أما لماذا يضربها فاختلفوا في سبب الضرب, ونورد ما ذكره الإمام الفخر الرازي تعليقا على ما ساقه المفسرون في تفسير! هذه الآية:
"واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، (ولست أدري كيف يدل هذا الكلام على تقدم يمين منه, فليس هناك أي إشارة إلى مسألة اليمين هذه! –عمرو-)  وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغّبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضاً ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برأ، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل الله يمينه بأهون شيء عليه وعليها، وهذه الرخصة باقية..[3]" ا.هـ
وليس في الآيات أي مستند لما يقولون, إلا إذا كانت التوراة تفسر القرآن, فهي التي قالت بهذا! أما الناظر في الآيات فيجد أن تطبيق الأمر بالأخذ والضرب أمر يتطلب الجلد والصبر, لذلك عقب الله تعالى بقوله "إنا وجدناه صابرا", فهل ضرب المرأة بحزمة من النبات يحتاج صبرا؟! ومن يتتبع السياق يجد أنه أُمَر أولا بالركض في قوله تعالى: "ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ" ثم جاءت جملة خبرية اعتراضية هي قوله: "وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ" ثم اسُتكمل الأمر الذي يوضح له نهوضه من النصب وهو "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ".
ولا خلاف في أن المراد من الضغث هو حزمة النبات, ونقطة الخلاف هي كلمة الضرب, حيث قالوا: طالما أنه أمره بالضرب فلا بد من وجود مضروب. ثم أخذوا يبحثون عمن ضُرب بهذا الضغث! مع أن الآية وضحت أن المفعول به هو الضغث المأخوذ ولم تذكر أي مفعول آخر. وبما أنه لم يُذكر في الآية مفعول فلا يمكن أن نضع نحن مفعولا من عند أنفسنا, لذا نبحث عن معنى آخر من معاني الضرب يتناسب مع الضغث, فنجد أنه التجارة والحركة, وهذا المعنى لا يحتاج إلى مفعول فيمكنني القول "ضربت في الأرض" –وهذا استعمال صحيح وارد في القرآن– ولا أحتاج إلى مفعول مقدر, فالأمر أمر بالتجارة بشيء بسيط يبدأ به ثم يفتح له الله بعد ذلك. أما قوله تعالى "ولا تحنث" فليس المراد من الحنث هو عدم الوفاء بالقسم, فليس هذا هو المعنى الوحيد للحنث, فأصل الحنث ليس عدم الوفاء, فالحنث كما جاء في المقاييس:  حنث: الحاءُ والنون والثاء أصلٌ واحد، وهو الإثْم والحَرَج. يقال حَنِثَ فلانٌ في كذا، أي أثِمَ.[4]" ا.هـ 
وكما رأينا فالمعنى الأصلي للكلمة هو التحرج والإثم, وهو ينهى عن التحرج من الضرب بهذا الشيء البسيط. ويبدو والله أعلم أنه نفذ الأمر لذا قال إنا وجدناه صابرا على قضاء الله كله وعلى الأمر فنفذه. وفي الأمر بالتجارة لكي يعود الإنسان إلى سابق حاله إرشاد إلى إعادة بناء الإنسان نفسه بنفسه, لكي ينهض بنفسه من كبواته. 
إذا فليس في الآيات إقرار للتحايل ولا تعليم له, وإنما إرشادٌ للإنسان لما ينهض به من كبواته وينفض به عن نفسه ركام الماضي ... والمرض. لذا فعلى من ينظر ليستخرج أحكاماً فقهية أو عقائدية أن يدقق فيما قالته الآيات لا أن يأخذ بالتصورات الموجودة لديه مسبقاً!



[1] وفي هذا يقول باحثو جمعية التجديد الثقافية, في كتاب التوحيد عقيدة الأمة منذ آدم, ص48-49: "أما العلماء الملحدون فزعموا أن الإنسان منذ البداية يعتقد بتعدد الآلهة, وبقيت هذه النظرية سائدة لدى الكثيرين إلى أن دحضها الدكتور س. هربرت. وهو أحد أعلام الحفريات وأستاذ الدراسات الأشورية في جامعة أكسفورد, فقد قال هذا العلامة إن عقيدة التوحيد في الديانات "السامية (!) والسومرية قد سبقت العقيدة بتعدد الآلهة" ا.هـ

[2] الحنيذ كما جاء في تفسير مفاتيح الغيب للرازي: "أما الحنيذ: فهو الذي يشوى في حفرة من الأرض بالحجارة المحماة، وهو من فعل أهل البادية معروف، وهو محنوذ في الأصل كما قيل: طبيخ ومطبوخ، وقيل: الحنيذ الذي يقطر دسمه. يقال: حنذت الفرس إذا ألقيت عليه الجل حتى تقطر عرقاً."

[3] فخر الدين الرازي, مفاتيح الغيب, الجزء السادس والعشرون, ص. 188.
[4] أحمد بن فارس, مقاييس اللغة, الجزء الثاني, ص. 108.

الأربعاء، 27 يوليو 2011

1-8 القصة والحكاية

القصة والحكاية

بعد أن بيّنا أن استعمال كلمة "القصة" لا يكون صحيحا لغويا إلا مع أحداث واقعية جرت, يقتص القاص بعضها ليخبر بها غيره, نتساءل: ما هو الاسم الذي يمكن إطلاقه على ال"قصة" المختلقة؟! إذا نظرنا في أدبنا المعاصر وجدنا أنه لا يفرق بين الواقعي والمختلق, فيسمي كلاهما نفس الاسم, وتكاد تنحصر هذه الأسماء في "القصة"! فهناك القصة القصيرة, وهناك الأقصوصة وهناك القصة! فإذا تركنا القصة وجدنا أن هناك "الرواية" والتي يمكن تعريفها بأنها قصة طويلة متداخلة الأحداث!! وهذا مدلول حديث مخالف تماما للمدلول الذي اشتهرت به بعد الإسلام, حيث كانت مرتبطة بنقل الأحاديث والأخبار! وهناك ما لا يمكن اعتباره "قصة" وهو ما يُعرف ب الخواطر. وهناك صنف آخر يعده الأدباء أقل منزلة من القصة وهو "الحكاية", وهي تلك القصص السردية البسيطة, التي لا تتوفر فيها الحبكة الدرامية, ولا تظهر فيها بوضوح شروط القصة الأدبية! 
فما هو الاسم الذي يمكن إطلاقه على القصص المختلق إذن؟!
نقول: الاسم الذي يدل على هذا الصنف من الأدب من حيث المعنى الأصلي له –بغض النظر عن الاصطلاحات الأدبية, التي لا تراعي المعاني الأصلية للكلمة!- هو: الحكاية! وذلك لأن الحكاية مأخوذة من المحاكاة, وهو التقليد! فإذا نظرنا في لسان العرب وجدنا ابن منظور يقول:
"الحِكايةُ: كقولك حكَيْت فلاناً وحاكَيْتُه فَعلْتُ مثل فِعْله أَو قُلْتُ مثل قَوْله سواءً لم أُجاوزه، وحكيت عنه الحديث حكاية. ابن سيده: وحَكَوْت عنه حديثاً في معنى حَكَيته. وفي الحديث: ما سَرَّني أَنِّي حَكَيْت إنساناً وأَنَّ لي كذا وكذا أَي فعلت مثل فعله. يقال: حَكَاه وحاكَاه، وأَكثر ما يستعمل في القبيح المُحاكاةُ، والمحاكاة المشابهة، تقول: فلان يَحْكي الشمسَ حُسناً ويُحاكِيها بمعنًى.[1]" ا.هـ
فالمحاكاة قائمة على التقليد والإتيان بمثيل للشيء, وهذا هو العنصر الرئيس للقصة في أدبنا المعاصر, فهي قائمة على إنشاء أحداث افتراضية مماثلة لما يحدث في الواقع, تقع في نفس المجتمعات التي نحيى فيها! فإذا نظرنا في القرآن وجدنا أنه لم يستعمل مفردة الحكاية أو أياً من مشتقاتها وإنما استعمل "القص" والإنباء, وهو ما يدل على الوقوع حقيقة لا افتراضا أو محاكاة!!




[1] جمال الدين بن منظور, لسان العرب, الجزء الثاني, ص. 954.

1-9 العنصر المفقود


العنصر المفقود
اتفق أنصار المدرسة الأدبية المتناولون لقصص القرآن, على اختلاف قصص القرآن عن القصص التقليدي, فقالوا بوجود سمات فيه تختلف عن القصص التقليدي, إلا أن هذا لم يمنعهم المقارنة بين "القصص" القرآني وبين أصناف الكتابات الأدبية, محاولين إيجاد تصنيفات للقصص القرآني يندرج تحتها بحجة أنه نص أدبي, فقالوا بوجود أصناف من "القصص" في القرآن ليس لها وجود في القصص الأدبي, وقاموا بتصنيف عدد آخر تحت التصنيفات المقدمة للقصص الأدبية!! وينسى هؤلاء جميعا الاختلافات الكبيرة بين القصص القرآني وبين القصة الأدبية! التي تجعل من غير المقبول اعتبار القصص القرآني قصة أدبية!
أول هذه الاختلافات هو أن مؤلف الكتاب كاملا, بما يحتويه من القصص, ليس بشرياً, ومن ثم فمن غير المنتظر أن تأتي المؤلَف على مثل كتابات البشر, أو أن يأتي البشر بمثل ما جاء به!! والطرف البشري هو طرف ملقَّن, ولقد صرح المؤلف في بعض الأحيان أنه أعلم المستقبِل البشري "محمد" أنه أنبأه بأنباء لم يكن يعلمها لا هو ولا قومه. والإصرار على المقارنة والإدراج يعني أن النص بشري! ولا يعني بهذا أننا نمنع البحث في خصائص القصص القرآني وسماته, فهذا مطلوب, وإنما نرفض إدراجه تحت صنف لا يطابقه ولا يشمله!
فإذا تركنا مسألة المؤلِف وجدنا أن المادة المقدَّمة غير متفقة, فالقصص القرآني وقائع حقيقة حدثت في زمن من الأزمان, نُقلت كما وقعت, فهو قص بالحق! ومن المعلوم أن محتوى القصص خيالي مائة بالمائة, فإن كانت القصة الأدبية تستند إلى أحداث واقعية, فإن هذه الأحداث لا تكاد تُشكل إلا الإطار العام للقصة, بينما يكون الجزء الأكبر من الأحداث من خيال المؤلف! وهذا ما لا نجده في القصة القرآنية, فالقصص القرآني اقتطاع نعتي لأحداث سابقة. فالقصص القرآني أقرب إلى التاريخ منه إلى الأدب –مع تذكيرنا بأن القصص القرآني ليس تأريخاً-, فهو قائم أصلاً على اقتطاع أحداث بعينها وعرضها للتدليل على صدق دعواه! ناهيك على أن هناك ما اعتبره القرآن "قصاً" ولا يمكن اعتباره بحال قصة أدبياً, فمن ذلك: "وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ ... [النحل : 118]", فهل يمكن اعتبار سرد أصناف المطعومات المحرمة قصة بأي شكل من الأشكال؟!
فإذا غضضنا الطرف عن هذه النقطة وجدنا أن القصة تقدم كقصة, طويلة كانت أم قصيرة, بناء مستقل له أهداف محددة أو حتى غير محددة, بينما يأتي القصص القرآني متخللاً آيات أخرى تتحدث عن الإيمانيات "العقائد" أو الأحكام الشرعية أو أنباء غيبية, أو يتخلله هو ذلك! فهل وُجدت قصة على مر الزمان يتخللها أي شيء آخر؟! من الممكن أن تحتوي القصة بداخلها قصة, أم أن تتداخل مع أجناس أخرى, فهذا ما لم يكن بحال!!
ولا يقتصر الأمر على التداخل وإنما يتعداه إلى التفريق, فنجد أن القصص القرآني يقص وقائع في أكثر من موطن, فيجمل أحيانا ويفصل أخرى, حسبما يقتضيه المقام والحال والموضوع المتناول في السورة, ولا يكفي المشهد الواحد المعروض في سورة من السور لأن يخرج الإنسان بتصور كامل عن هذه الوقائع, وإنما عليه أن يضع كل المشاهد بجوار بعضها حتى يكون ما يمكن تسميته بالقصة المترابطة الأحداث!! وغني عن الذكر أنه حتمٌ على من يُجمع المشاهد المنثورة في السور, لكي يُقدم ما يمكن تسميته بالقصة, أن يلتزم بالترتيب القرآني للأحداث, وأن يمعن النظر للوصول إلى الترتيب القرآني لها, ولا يكتفي بالعرض المألوف للقصة! لأنه ربما يكون قيل به تأثراً بروايات إسرائيلية أو بدون تمحيص كافٍ![1]
إلا أن هذا لا يكفي كذلك, فقد لا يؤدي وضع المشاهد المنتقاة من السور المختلفة والمتعلقة بموضوع واحد إلى تكوين قصة مكتملة الأركان! لأسباب عدة, منها أن القرآن لا يصرح أحيانا بترتيب وقوع حدث من الأحداث, وليس ثمة مرجح حاسم لزمان وقوعها! فهل تسمى مجموعة المشاهد التي قد (لا) تؤدي إلى تصورٍ ما, ولا يُجزم بترتيب وقوع بعضها, بقصة؟!
إن أقصى ما يفعله أرباب القصة عند قصّهم أحداثاً واقعية هو أن يغيروا من ترتيب عرض الأحداث, فيحدثون تداخلاً في أزمنة وقوع الأحداث, مقدمين إطاراً عاماً تدور فيه هذه الأحداث.  ولم يحدث أن أدخلوا في القصة ما ليس من جنسها, ولا أن اكتفوا بعرض مشاهد غير مرتبطة, فهذا لا يسمى قصة بحال! وهذا ما قدمه القرآن, فلقد قص وقائع موجَّهة لغايات محدودة, وأبينا إلا أن نفهمها كقصص!!






[1] فمن ذلك مثلاً أقوال المفسرين التي ذكرها الإمام الفخر الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب, الجزء الثالث, ص. 78-79., عند تناوله لقوله سبحانه: "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة : 55]", والتي جعلت طلب رؤية الله جهرة بعد عبادة العجل! إلا أنها اختلفت في تحديد زمان الواقع!, فنجده يقول: "للمفسرين في هذه الواقعة قولان، الأول: أن هذه الواقعة كانت بعد أن كلف الله عبدة العجل بالقتل، قال محمد بن إسحاق: لما رجع موسى عليه السلام من الطور إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل وقال لأخيه والسامري ما قال, وحرق العجل وألقاه في البحر، اختار من قومه سبعين رجلاً من خيارهم فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: سل ربك حتى يسمعنا كلامه، فسأل موسى عليه السلام ذلك فأجابه الله إليه (...) فقال القوم بعد ذلك: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، فأخذتهم الصاعقة وماتوا جميعاً (...) القول الثاني: أن هذه الواقعة كانت بعد القتل، قال السدي: لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادتهم العجل، فاختار موسى سبعين رجلاً، فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة، فأخذتهم الصاعقة وماتوا (....) واعلم أنه ليس في الآية ما يدل على ترجيح أحد القولين على الآخر وكذلك ليس فيها ما يدل على أن الذين سألوا الرؤية هم الذين عبدوا العجل أو غيرهم." ا.هـ
والقولان المجمعان على أن الحادثة كانت بعد عبادة العجل مخالفة لقوله تعالى: "
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً [النساء : 153]", والذي يصرح أن اتخاذ العجل كان بعد الأخذ بالصاعقة وليس قبله!

1-7 القصص والاختلاق

القصص والاختلاق
رأينا كيف أن التعامل مع قصص القرآن كنص تاريخي أدى إلى تحويلها إلى "قصص تاريخية", واستمر الحال على هذا الوضع قرونا طويلة, بدون أي بادرة شك في أن القرآن كان يقص عن أحداث جرت في أزمنة سابقة, وعلى المؤلف أو الكاتب أن يكمل عناصر الصورة التي لم يذكرها القرآن, فيضع القصة القرآنية في الإطار التوراتي!! إلا أن الحال اختلف مع بزوغ نجم العصر الحديث, الذي تأثرت فيه الدول الإسلامية بمناهج الفكر الغربي المستعمر! فوجدنا في منتصف القرن العشرين من يشكك في هذه المسلمة البديهية, ويقول أن قصص القرآن ما هو إلا قِصص, لا يُشترط فيها وقوعها بالشكل الذي رواه القرآن, ولا حتى وقوعها أصلا, لأنها لا تزيد عن كونها قِصص وعظية تعليمية, ومن ثم فلن يقدم وقوعها أو عدمه قليلاً أو كثيراً!
وصاحب هذا الرأي هو الدكتور محمد خلف الله, تلميذ الأستاذ أمين الخولي, صاحب مدرسة التفسير الأدبي للقرآن, ومن ثم فليس ثمة كبير عجب أن يخرج الدكتور خلف الله بهذا التوجه! فصاحب كل علم يريد أن يجذب القرآن إلى علمه ويخضعه لقواعده ويفهمه تبعاً له, ومن ثم يصبح هو صاحب الريادة في تقديم منهج جديد في التعامل مع القرآن!! ولو صدر هذا التصور من غير أهل اختصاص لكان له صدى أكبر عندي, لأنه يعني أنه هناك من رأى بحيادية وعدم تعصب أن المنهج الفلاني هو الأصح في تناول القرآن!! وهذا الرأي نموذج حديث طيب على أن قصور المعالجة لموضوع ما يؤدي إلى الخروج بنتائج عجيبة!!

فأول انتقاد يُوجه إلى الدكتور خلف الله هو فهمه "القصة" تبعا للاصطلاح الأدبي المعاصر, فنجده يقول:
"ونحن مع احترامنا لكل من اللغويين والمفسرين لا نستطيع ونحن ندرس القصص الفني أن نقف عند هذه الحدود لأنا حين نذكر قصة إنما نقصد شيئاً آخر أهم من متابعة الخبر أو الحديث. نقصد ذلك العمل الأدبي الذي يكون نتيجة تخيُّل القاص لحوادث وقعت من بطل لا وجود له أو لبطل له وجود ولكن الأحداث التي دارت حوله في القصة لم تقع أو وقعت للبطل ولكنها نظمت في القصة على أساس فني بلاغي فقدم بعضها وأُخّر آخر وذُكر بعضها وحُذف آخر أو أُضيف إلى الواقع بعض لم يقع أو بولغ في التصوير إلى الحد الذي يخرج بالشخصية التاريخية عن أن تكون من الحقائق العادية والمألوفة ويجعلها من الأشخاص الخياليين.[1]" ا.هـ
وبذلك يكون الدكتور خلف الله قد أغفل المعنى اللساني للكلمة والذي كان مستعملاً لها في زمان النزول, فكما قلنا فإن القصص لا بد أن يكون "مقطوعا/مأخوذا" من الواقع, وإلا لا يكون قصصا, والعرب لم تكن تعرف القصاصين قبل الإسلام, وحتى بعد ظهورهم لم يكن يُنظر إليهم على أنهم يؤلفون حوادث لا أصل لها, وإنما باعتبار حصولهم على علم غير متوفر عند غيرهم!! ومن ثم فلا يعني طروء معنى إضافيا له أن نجعله المعنى الأصلي! فإذا أراد الدكتور خلف الله أو المؤمنين بنظريته فهم الكلمة تبعاً للمصطلح المعاصر, فعليهم أولاً أن يثبتوا أنها كانت تُستعمل بهذا المدلول في ذلك الزمان .... وأنّى لهم هذا!!

فإذا غضضنا الطرف عن المصطلح وجدنا أن القول بأن قصص القرآن تخيلي افتراضي سيؤدي إلى ضياع جزء كبير من التأثير الذي ينزله بالسامع وخفوت قوة تأثيره, فشتان بين من يدلل على قوله بما وقع وبين من يفترض!! ولقد لاحظ الأستاذ محمود البستاني فارق التأثير هذا فقال:
"وبالرغم من أنّ هناك نمطاً من القصة يُسمّى بـ (القصة التأريخية) فيما تعني بنسخ الوقائع التأريخية دون إخضاعها لما هو مصطنعٌ من الوقائع، أي: دون إخضاعها لظاهرة (الاحتمال) أو (الإمكان)، إلاّ أنها في ـ الواقع ـ تخضع بدورها لعناصر مصطنعة قد تشكّل (حبكة) القصة التي تحوم الوقائع عليها أو تشكل بعض المواقف أو الأحداث أو الأبطال أو البيئات منها،... وهذا على الضدّ تماماً من القصة القرآنية الكريمة التي يصحّ أن نطلق عليها مصطلح (القصة العملية) فيما تُعنى بنقل الأحداث الحقيقية: ولكن وفق (اصطفاء) هادف للعناصر التي تُضيء (الأفكار) المستهدفة في النصّ القرآني الكريم.
إن الفارق بين القصة العملية والقصة المصطنعة يكمن في طبيعة الإثارة التي يتضخم حجمها ـ دون أدنى شك ـ في القصة العملية بالقياس إلى القصة المصطنعة التي يضؤل حجم الإثارة فيها: نظراً لما نعرفه تماماً من أنّ القارئ حين يتابع قراءة قصة (مصطنعة) بما تنطوي عليه من عناصر الإثارة: تشويقاً ومماطلة ونحوهما، يظل انفعاله (فنّياً) أكثر منه (وجدانياً)، ما دام سلفاً على إحاطة كاملة بأنه حيال أحداث وهمية يفتعلها القاص، بخلاف ما لو علم بأنه حيال حدثٍ واقعي: حينئذٍ فان انفعاله بالحدث سيكتسب سمة (الواقع) أيضاً. من هنا تمكن أهمية القصة القرآنية التي تتعامل مع (الواقع) بدلاً من (المحتمل)، محققةً بذلك عنصر (الاقتناع) عملياً، وليس مجرّد (إقناع) لما هو محتمل الوقوع.[2]" ا.هـ

فإذا نظرنا في الأسباب التي دفعت الدكتور خلف الله إلى القول بهذا الرأي لم نجده قد استخرج واحداً منها من القرآن, وإنما لأنه لم يتدبر النص القرآني ولم يدرسه بما يكفي, وإنما أخذ التراث المقدم حوله, سواء كان أقوال علماء أو روايات ... أو حتى شبهات! أخذه كمسلمة, ثم حاول أن يقدم مبرراً يقضي على نقاط الضعف هذه  -من وجهة نظره- فكان أن خرج بهذا الرأي, فكل ما فعله هو أن سلّم بتناقضات وتعارض بين النصوص وبعضها وبينها وبين الواقع, ثم برر ذلك بأن هذا راجع إلى أن هذا قصص أدبي!!
وهذا القول الذي أتى به ليس بدعاً من القول, وإنما هو منهج غربي سائد في التعامل مع النصوص الدينية الموجودة في التوراة والإنجيل عامة, وليس القصص منها, فلا يهم الانسجام الداخلي ولا التوافق الخارجي, فهي نصوص أدبية غائية, فعلينا الانشغال بالغاية ليس أكثر!!! فما كان من الدكتور خلف الله إلا أن حاول أن يدلل على صحة هذا المنهج وحتمية تطبيقه على القرآن كحل أمثل للقضاء على الإشكاليات التي تواجهه!! والعجب كل العجب أن يتخذ من لم ير, عدم رؤيته دليلاً ضد من رأى, ويريد منهم أن يتبعوه!
إن أكبر مبطل لهذا المنهج هو عدم استدلاله بآية واحدة على قوله وما هي إلا أفهام يحاول أن يدلل بها على صحته, واعتماده مستندات تخالف القرآن أحياناً! فمن ذلك قوله: "وذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه القصة –قصة أصحاب الكهف- مشروحا, فقال: وكان النضر من شياطين قريش، وممن كان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينصب له العداوة، وكان قد قدم الحيرة وتعلم بها أحاديث ملوك فارس، وأحاديث رستم وأسفندباذ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس مجلساً يذكر فيه بالله ويحذر قومه ما أصاب من قبلهم من الأمم من نقمة الله، خلفه في مجلسه إذا قام، ثم يقول: إنا والله يا معشر قريش أحسن حديثاً منه، فهلموا فأنا أحدثكم أحسن من حديثه، ثم يحدثهم عن ملوك فارس.
ثم إن قريشا بعثوه وبعثوا معه عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة فقالوا لهما: سلوهم عن محمد، وصفوا لهم صفته، وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألا أحبار يهود عن أحوال محمد, فقالت لهم أحبار اليهود: سلوه عن ثلاثة: عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ماذا كان من أمرهم       فإن حديثهم عجب, وعن رجل طواف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها, ماذا كان نبؤه, وسلوه عن الروح ما هو  فإن أخبركم فهو نبي، وإلا فهو متقول متقول..." فإن هذا النص كما ترى, يدلنا على أن اليهود هم الذين كانت بأيديهم المقاييس التي يفرقون بها بين الصادق والكاذب من النبيين والمتنبئين, ثم هو يدلنا على أن معرفة أخبار السابقين من هذه المقاييس.[3]" ا.هـ

ولست أدري كيف تكون هذه الرواية –على فرض صحتها- دليلاً على أن المقاييس كانت بيد اليهود, لو كان محمد هو من قال للمشركين اسألوا اليهود هل أنا صادق أم كاذب لكان هذا مقبولاً, أمّا أن يفعل المشركون شيئاً فلا نزن الدين به!! ولو تدبر الدكتور خلف الله النص القرآني الموجود بين يديه لاكتشف أن هذه الرواية مكذوبة لا تتفق مع النص القرآني بحال, ولا كتشف أن الأمثلة التي قدمها لأنواع القصص بالنسبة لمعرفة العرب غير دقيقة[4]! فلو نظر في أول قصة أصحاب الكهف لوجد أنها لم تبدأ بقوله: "ويسألونك" وإنما تبدأ بقوله: "أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً [الكهف : 9]", والإنسان لا يقال له: "أم حسبت كذا", إلا إذا كان يعلم المسؤول عنه, فسؤال القرآن للرسول عن أصحاب الكهف وعن حسبانه أنهم كانوا من آيات الله عجبا, دليل على أن القصة كانت من المعروف بين العرب, وهو مثل قولي لشخص: سأهزم فلانا بسهولة, أم أنك حسبت أن انتصاراتي كانت حالة استثنائية؟! فالله يعتب على النبي أنه لم ينتبه إلى هذه الحادثة ويقول له هل ظننت أن هذه الآية عجب, ومن ثم فلن يتكرر مثلها؟! ثم قال له أنه سيقص عليه نبأ أصحابها بالحق, -لأن ما تنوقل عنهم فيه حق وباطل-! أما ذو القرنين فالعرب كانت تعرفه, لأنه يمني منهم, وكان معروفاً أنه مؤمن, ولم يكونوا بحاجة أن يُعرفهم اليهود به, فرد القرآن عليهم بأنه سيتلو عليهم منه ذكراً, فهو سيذكر لهم جانب بسيط يذكرهم!! لا أنه سيعطيهم نبأه!!
إذا وكما رأينا فالدكتور خلف الله لم ينطلق من النص ولم ينظر فيه بما فيه الكفاية, ليحكم هل يتفق مع ما قيل حوله أم ينافيه!!

فإذا تركنا هذه النقطة وانتقلنا إلى مستند آخر من مستنداته في القول بأن قصص القرآن قصص أدبي بالدرجة الأولى, وجدنا أن مستنده هو تطابق قصص القرآن مع ما في الكتب السابقة, فنجده يقول: 
"والظاهرة التي يحسن بنا الالتفات إليها في هذا المقام هي أن القرآن حين جعل هذه الأخبار من آيات النبوة وعلامات الرسالة جعلها أيضا مطابقة لما في الكتب السابقة أو لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار, حتى ليخيَّل إلينا أن مقياس صدقها وصحَّتها من الوجهة التاريخية ومن وجهة دلالتها على النبوة والرسالة أن تكون مطابقة لما يعرفه أهل الكتاب من أخبار[5]" ا.هـ
ولست أدري كيف يفترض الدكتور خلف الله هذه الافتراضية والقرآن يقول صراحة: " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل : 76]", فإذا كان القرآن يعتبر نفسه مهيمنا على الكتب السابقة, ومرجعاً لبني إسرائيل يحتكمون إليه بشأن الأقوال المختلف فيها بينهم, فكيف يصبح تابعاً لهم! وحكم الدكتور خلف الله بتطابق النص القرآني لما في كتب السابقين يدل على أنه لم يكن ينظر في النص وإنما يأخذ بما قاله السابقون كتفصيل معتمد له, وسنقدم للقارئ على صفحات هذا الكتاب الكثير من الأمثلة التي تبين كيف أن التشابه بين القرآن والكتب السابقة هو تشابه ظاهري سطحي, يقع فيه المتعجل, أما المتدبر فيرى بجلاء افتراقاً كبيرا!!

ومن مستنداته كذلك بعض الشبهات المثارة حول بعض الأخطاء العلمية في النص القرآني مثل القول بغروب الشمس في العين الحمئة!! ولست أدري أين قال القرآن أن الشمس تغرب في عين حمئة, لقد قال: "... وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ .. [الكهف : 86]", ومن يقف أمام البحر في ساعة الغروب يجد الشمس تنزل في البحر!! فالقرآن كان ينعت المشهد الذي وجده/شاهده ذو القرنين, وليس أكثر!!
كما استند إلى بعض أفهام عجيبة لآيات حكم من خلالها بالتناقض وعدم المنطقية, فنجده يقول: "إسناده بعض الأحداث لأناس بأعيانهم في موطن ثم إسناده الأحداث نفسها لغير الأشخاص في موطن آخر, ومن ذلك قوله تعالى في سورة الأعراف: "قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَـذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ", إذ نراه في سورة الشعراء مقولاً على لسان فرعون نفسه " قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ". وكذلك تجد في قصة إبراهيم من سورة هود أن البشرى بالغلام كانت لامرأته بينما نجد البشرى لإبراهيم نفسه في سورة الحجر وفي سورة الذاريات.[6]" ا.هـ
ولست أدري كيف ضاقت قريحة الدكتور خلف عن تصور مثل هذا المواقف كما هي! ثم الحكم الجائر بتضادها! فلو أخذنا آيتي فرعون والسحرة مثلاً لوجدنا أنه لا مانع أبداً ولا استحالة منطقية من أن يكون أحدهما سبق الآخر, فقال الثاني كلامه, وأرجح أن يكون فرعون هو من قالها, فكرر السحرة كلامه تأكيدا له, وحكى القرآن مرة قول فرعون ومرة قول التابعين "الإمعات" الذين يؤَمّنون على كلام سيدهم حقاً كان أم باطلا!!
واعتمد الدكتور خلف الله على غير هذه المستندات, إلا أنها مثل سابقتها, مستندات واهية يكفي المرء أن ينظر فيها نظرة ثاقبة ليكتشف نقاط ضعفها وبطلانها, ويمكن القول أن مستنده الوحيد القوي, -والذي لا يكفي كذلك للقول بهذا الرأي- هو تكرار القصص بألفاظ مختلفة, وسنعرض لهذه المسألة في عنصر مستقل.



[1] محمد أحمد خلف الله, الفن القصصي في القرآن الكريم, ص.152.
[2] محمود البستاني, دراسات فنية في قصص القرآن, ص.9.
[3] محمد أحمد خلف الله, الفن القصصي في القرآن, ص.52.
[4] ذكر الدكتور خلف الله في كتابه الفن القصصي في القرآن, ص.255,256 أنواع القصص بالنسبة لمعرفة العرب وعدم معرفتهم! فقال: "نوع نستطيع أن نسلم منذ اللحظة الأولى بأنه كان مجهولا في البيئة المكية جهلا يكاد يكون تاما وذلك هو النوع الذي نزل ليثبت نبوة النبي عليه السلام والذي جاء إجابة عن تلك الأسئلة التي يتوجه بها المشركون من أهل مكة إلى النبي ليعرفوا صدق رسالته وصحة نبوّته, ومن أمثلته قصص أصحاب الكهف وذي القرنين. (....) ونوع نستطيع أن نسلم أيضا منذ اللحظة الأولى بأنه كان معروفا في البيئة العربية وذلك من أمثال هذه الأقاصيص التي وردت إشارات عنها في الشعر الجاهلي كقصص أحمر عاد وأحمر ثمود وقصص الجن مع سليمان أو تلك التي بدأت بالتعبير القصصي "ألم تر" كما يقول المفسرون. ....... نوع ثالث وهو الكثرة قد يشتبه فيه القارئ, فلا يدري أهو من النوع الأول أم هو من النوع الثاني, وأمثلته أقاصيص آدم مع إبليس وقصة الخلق وقصص لوط ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وداود وأيوب وغيرهم." ا.هـ
[5] المرجع السابق, ص.53.
[6] المرجع السابق, ص.82.

1-6 القصص والتاريخ

القصص والتاريخ
على الرغم من اتفاق قصص القرآن والتاريخ في عدد كبير من النقاط, إلا أنهما يختلفان في مسألتين رئيستين, تجعلها يتمايزان تمام التمايز:
الأولى: الدور المنوط به, فالدور الأول للتاريخ أن يعي ويدون ويسجل الأحداث, ويذكرها صراحة, ثم تختلف المعالجات الإنسانية لها, تبعاً للغاية التي يريد الإنسان أن يوظف التاريخ لها!! بينما لم يأت قصص القرآن ليكون ذاكرة البشرية, وإنما أتى ليدلل بأكثر النماذج بياناً على صدق دعواه, -والذي سماها "أحسن القصص"-, ولهذا لم يذكر أزمنة وقوع الأحداث التي يقصها, ولم يعرض لكل الأحداث البشرية ولم يذكر حتى كل الأنبياء, وإنما اكتفى بإشارات, تُعين البشر على معرفة هويتهم وتحديد وجهتهم. (وسنبين للقارئ الكريم على صفحات الكتاب, ضرورة قصص القرآن لمعرفة أصل الهوية)

وللعجب وجدنا من يعتبر هذا إبهاما فيقول:
"
والناظر في القرآن الكريم يجد أن القرآن في عرضه للقصص لم يهتم بجانب التفاصيل للأحداث أو أسماء الأشخاص, أو سرد كل الوقائع أو بيان الأمكنة والأزمنة, إنما كان اهتمام القرآن بإبراز المواقف التي تحوي الدروس والعبر والدلالات في حاضر الناس ومستقبلهم. لذا نجد القرآن لا يعرض إلا أقل القليل من أحداث القصة, ويترك الكثير من التفاصيل التي لا تفيد في التماس العظة والعبرة. لذا عرف الكاتبون في علوم القرآن لونا من ألوان هذه العلوم سُمي (مبهمات القرآن) ذكره السيوطي (911هـ) في النوع السبعين من إتقانه. وذكره الزركشي (794 هـ) في النوع السادس من برهانه.[1]" ا.هـ
ولست أدري بأي حق يعتبرون هذا من المبهمات, فهل قال لهم القرآن أنه كتاب تاريخ؟! وهل أمرهم أن يعرفوا ما لم يقله؟!

الثانية: اليقينية, فالتاريخ والتأريخ البشريان ظنيان, يعتريهما الكثير من العوامل التي تؤدي لا محالة إلى تراجع نسبة اليقينية والصدق فيهما, بينما "يختلف القصص القرآني عن التاريخ القائم على الظن في ثبوت الحدث, وعلى احتمال عدم وصوله كاملا للمؤرخ, واحتمال الخطأ في فهم المؤرخ, وعلى احتمال الهوى في عرضه, فيُعرض مدَلسا أو يُخفى بعضه ويُذكر بعضه, وعلى عدم دقة القنوات الإخبارية الناقلة للخبر, لما يعرض للبشر الناقلين من سهو أو نسيان أو لبس أو خلط أو هوى! 
يختلف القصص القرآني عن هذا كله في أنه قصص يقيني, قصص حق: "إِنَّ هَـذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ .... [آل عمران : 62]", وهو قصص حق لأنه قُصَّ بالحق: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ..... [الكهف : 13]", وكونه قُص بالحق راجع إلى مزية لا يمكن أن تتوفر بحال لأي مؤرخ على وجه الأرض في أي زمان, -مهما حاز من الوسائل والأدوات- وهي أن القاص كان شاهداً, وهو عالم بالأسباب والمبررات والدوافع: "فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ [الأعراف : 7]", فحتى لو كان المؤرخ شاهداً للحدث فهو شاهدٌ غير عالم! فلن يمكن لأي مؤرخ مهما كان أن يطلع على بواطن الأمور, وعلى ما يدور في نفوس الناس وعلى ما يحدث في اجتماعاتهم السرية! والقرآن العظيم في قصِّه بيّن كيف قص, فلقد قص بالعلم والحق والشهادة, وبيّن ماذا قص, فلقد قصّ حقا ولم يقص افتراء[2]" ا.هـ
وعلى الرغم من اختلاف غاية قصص القرآن عن التاريخ, فقد أبى أكثر الكاتبين حوله إلا أن يجعلوه كتاب تاريخ, اقتداءً بوهب بن مُنَبه, والذي سن لهم سنة سيئة, بتأليفه كتاب "قصص الأنبياء", فنزع القصص من سياقه وأغفل غايته! وقضى على استعلاءه على التوراة, فجعله تابعا لها! وأخذ يبين للناس, اعتماداً على التوراة, ما لم يذكره القرآن!! فسار من جاء بعده على الدرب, فوجدنا أن أوائل كتب التاريخ, التي ألفها المسلمون, أصبحت خليطاً من الدين والتاريخ! فتداخل قصص القرآن مع التاريخ, كما وجدنا مثلا في تاريخ الطبري "تاريخ الرسل والملوك" وغيره من كتب التاريخ[3]!!

واستمر الحال على هذا المنوال, إلى أن جاء المتأخرون فلم يعجبهم هذا التداخل, فرأوا أن يفضوا هذا التداخل, لا ليعيدوا القصص القرآني ليُقرأ في سياقه وإنما ليفردوا الكتابة حوله في كتب مستقلة, تحمل اسم قصص القرآن أو قصص الأنبياء, حيث الهدف منها هو تقديم القصص كقصة! وهكذا اكتفوا باستبعاد التاريخ, وأخذوا يعيدون صياغة قصص التوراة تحت اسم "قصص القرآن" بحجة أنه لا يمكن عرض قصص القرآن بدون التفاصيل التي تقدمها التوراة!! ولست أدري من قال لهم أنه من الواجب عليهم, أو حتى من المستحب, أن يعرضوا قصص القرآن كقصة!! ولست أدري كيف غفلوا عن قول الرب العليم:
" تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة : 134]"
وبسبب إصرارهم على عرض قصص القرآن كقصة, تقدم بعض المعاصرين خطوة ... إلى الخلف!! فقال أن قصص القرآن لم يقع أصلاً!!



[1] همام حسن يوسف, سليمان في القرآن, -رسالة ماجيستر- ص.50.
[2] عمرو الشاعر, عائشة أم المؤمنين, العبقرية المفترى عليها, ص.37-38!
[3] ولا يعني هذا أننا نعيب على المؤرخ أن يجعل القرآن منطلقاً له في كتابته للتاريخ وتحليله لأحداثه, ولكنا نرفض أن يكون المستند هو التوراة ثم يُنسب المحتوى إلى القرآن, والذي جاء حاكما بخطئه أو مصححا له, فيسمى بقصص القرآن وهو منه براء!! كما نرفض أن يُعامل القرآن ككتاب تاريخ, محكوم عليه بالنقص والعوز, ومن ثم يُجعل تابعا لغيره! والذي يكمل ما لم يذكره!!

1-4 أنواع قصص القرآن

أنواع قصص القرآن

بعد أن عرفنا دلالة القص, ننتقل إلى النقطة التالية له وهي معرفة المدلول, الذي سماه القرآن "قصصا", فما هي أنواع قصص القرآن –من حيث المحتوى-؟! 
الناظر في الكتابات التي عرضت لهذه القضية يجد أن هناك من يقسم قصص القرآن إلى قصص أنبياء وقصص عن أشخاص ليسوا بأنبياء, عرض القرآن طرفاً من ما فعلوه أو حدث لهم! وهناك من يزيد على هذا فيجعل الأحداث التي وقعت في زمن النبي من القصص, ومن ثم فيجعلون قصص القرآن على ثلاثة أنواع, ومن أنصار هذا التوجه الأستاذ مناع القطان, فنجده يقول:
"والقصص في القرآن ثلاثة أنواع:
النوع الأول: قصص الأنبياء، وقد تضمن دعوتهم إلى قومهم، والمعجزات التي أيدهم الله بها، وموقف المعاندين منهم، ومراحل الدعوة وتطورها وعاقبة المؤمنين والمكذبين, كقصة نوح وإبراهيم وموسى وهارون وعيسى ومحمد، وغيرهم من الأنبياء والمرسلين، عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام.
النوع الثاني: قصص قرآني يتعلق بحوادث غابرة، وأشخاص لم تثبت ثبوتهم، كقصة الذين أخرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت وطالوت وجالوت، وابني آدم وأهل الكهف وذي القرنين وقارون وأصحاب السبت ومريم وأصحاب الأخدود، وأصحاب الفيل ونحوهم. 
النوع الثالث: قصص يتعلق بالحوادث التي وقعت في زمن رسول الله r كغزوة بدر واُحد في سورة آل عمران، وغزوة حنين وتبوك في التوبة، وغزوة الأحزاب في سورة الأحزاب، والهجرة والإسراء، ونحو ذلك.[1]" ا.هـ
والمتدبر لهذين  التوجهين يجد أن كليهما لم يجعل القرآن مرجعاً له في استخراجه التصنيف الذي يقول به, وإنما اجتهد في إيجاد تصنيف جامع لقصص القرآن, فإذا نظرنا في القرآن وجدنا أن القرآن يربط قصّه بالأنباء, فنجده يقول: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا .... فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف : 176], تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبائِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ .... [الأعراف : 101], ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ [هود : 100], وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [هود : 120], كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً [طه : 99]

فقصُ القرآن مرتبط بأنباء القرى والرسل السابقين, أما الأحداث المتعقلة بالرسول وبأفعال المعاصرين له مؤمنين وغير مؤمنين, فلم يعتبرها القرآن قصّاً بأي حال من الأحوال لأنها لم تكن بالنسبة لهم أنباء وإنما واقع مشاهد, والإنباء لا يكون إلا بإظهار المخبَر على ما لا يعلم!! ولا يعني هذا أننا نشترط في "القص" الارتباط بالأحداث الغابرة السابقة كما قال بعضهم,[2] -فلقد استعمل القرآن مفردة القصص مع وقائع حديثة معاصرة –غائبة عن المتلقي-, وذلك في مثل قوله: "قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ .... [يوسف : 5], وقوله: "..... فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص : 25]"-
وإنما نقول أن القرآن حصر قصه في أنباء السابقين ومن ثم فلا نعتبر ما سماه القرآن "ذكراً": " لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ [الأنبياء : 10]" لا نعتبره قصصا من عند أنفسنا. فإذا أردنا أن نخلص إلى أنواع القصص في القرآن استنادا إلى التسمية القرآنية, نجد أنها:
1- من أنباء القرى.
2- من أنباء الرسل.
3- من أنباء ما قد سبق.
كما يمكن تقسيم القصص من زاوية أخرى إلى صنفين آخرين, هما: قصص أقوال وقصص أحداث, فنجد أن الله تعالى يقص أحيانا أقوالاً لأشخاص أو حوارات, كما قص الحوار الذي دار في أول الخليقة بينه وبين الملائكة بشأن جعل الخليفة, أو المحاجة التي حاجها الرجل لإبراهيم في ربه, وأحيانا أخرى أكثر يقص أحداث قد تشتمل حوارات وأقوال, إلا أن العنصر الأول هو الأحداث نفسها.



[1] مناع القطان, مباحث في علوم القرآن, ص.301.
[2] مثل الدكتور أنور إبراهيم, والذي قال في بحث منشور له على ملتقى أهل التفسير : "ومن خلال الاشتقاق اللغوي للكلمة نرى أنها تدور حول الكشف عن آثار ماضية نسيها الناس أو تغافلوا عنها وإعادة عرضها من جديد للتذكير بها لتكون لهم عبرة وآية .والمراد من القصص القرآني : إخباره عن أحوال الأمم الماضية والأنبياء السابقين والحوادث والكائنات الواقعة فيما مضى من الزمن, وبناء على هذا التعريف : يشترط أن تكون قصة غابرة في الماضي ، ونزل القرآن متحدثا عنها ، أما المناسبات الحاضرة فى زمن النبوة فلا تسمى قصصا ، وذلك كالغزوات التي تحدث عنها القرآن والحوادث التي وقعت فى هذا الزمن كحديث الإفك والظهار وما شابه هذه الأمور بحجة أن هذه الأحداث عايشها من شهدوا الوحي والتنزيل فلا تعد بالنسبة لهم قصصا .." ا.هـ

1-5 لماذا قص القرآن؟

لماذا قص القرآن؟

قد يجول في خاطر بعض البشر هذا السؤال, فلماذا يقص الإله في الكتاب الذي يوحي به إلى البشر؟! وما الحكمة التي تجعل للقصص هذا النصيب الكبير في الكتاب الخاتم للبشر؟! ونحن إذ نتحدث عن القصص, فإننا لا نقصد سبب ورود كل قصة بمفردها, -فسنعرض لهذا في عنصر لاحق- وإنما نتحدث عن علة ورود القصص ك "جنس" في الوحي.
والواقع أن هذا السؤال لم يغب عن أذهان السابقين, فتطوعوا وقدموا له إجابة, إلا أنها كانت من السوء بمكان كبير, فطعنت في الصحابة وحطت من شأن القصص وأساءت إلى الرب العليم! فإذا نظرنا في الروايات التي ذكرها الإمام الطبري عند تأويله لآية " نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ... [يوسف : 3]" نجده يورد روايات تقول: ".... عن ابن عباس قال: قالوا: يا رسول الله، لو قصصت علينا؟ قال: فنزلت: "نحن نقص عليك أحسن القصص". (....)
عن عون بن عبد الله، قال: ملَّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ملّةً، فقالوا: يا رسول الله حدثنا! فأنزل الله عز وجل: "اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ [الزمر:23]". ثم ملوا ملَّةً أخرى فقالوا: يا رسول الله حدثنا فوق الحديث ودون القرآن! يعنون القصَص، فأنزل الله: "الر تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآنا عربيًا لعلكم تعقلون نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن وإن كنت من قبله لمن الغافلين"، فأرادوا الحديث فدَّلهم على أحسن الحديث، وأرادوا القصصَ فدلهم على أحسن القصص.[1]" ا.هـ
وكما رأينا فلقد جعلت بعض الروايات أن سبب ورود جنس القصص في القرآن هو طلب الصحابة, وزادت بعض الروايات الطين بلة, فقالت أن الصحابة ملّوا!! وهذا يعني أن القرآن لم يعد مغنياً ولا شافيا كافياً لهم, فأرادوا التسلية, فجعل الله لها نصيباً في كتابه!! والأسوأ أن عون بن عبد الله هذا جعل قصص القرآن ليس على نفس مرتبة القرآن!! فجعل القرآن (والذي ليس فيه حديث ولا قصص) مرتبة, وجعل الحديث مرتبة دنيا!! ثم جعل القصص مرتبة أعلى من الحديث وأدنى من القرآن!! ولست أدري كيف نزع صبغة القرآنية عن هذه الأقسام من الكتاب؟!!

وهذا القول الوارد في الروايات قول ساقط لا ينبغي الالتفات إليه, فلقد ذكر لنا الله العليم في كتابه لماذا قص, فلماذا نرضى بكتاب الله بديلا, سواءً كان من السابقين أم اللاحقين؟! فإذا نظرنا في الكتاب العزيز وجدنا أن الأسباب التي ذكرها علة لقصه, هي: "1- أن يأخذ الناس منها عبرة! ولكن لن يعتبر إلا أولو الألباب, أما عامة الناس فسيرونها قصة مسلية! "لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ"
2- التفكر, فليس القصص للتسلية: " .... فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف : 176]"
3- تثبت فؤاد المؤمن, عندما يعلم أن من سبقه تعرضوا لما يتعرض له ونصرهم الله في نهاية المطاف: "وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ... [هود: 120]"
4- الازدجار بمعرفة سوء عاقبة المكذبين: "وَلَقَدْ جَاءهُم مِّنَ الْأَنبَاء مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [القمر : 4]"
5- معرفة سنن الله تعالى الجارية على عباده, مثل أن الله تعالى يداول الأيام بين الناس: "... وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ...[آل عمران : 140]", وأن الأمم تزول بانتشار الظلم والفسق والفساد, وأن سنن الله لا تتحول ولا تتبدل: " ... وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً [فاطر : 43]", وأن الأمم لها أجل في هلاكها, وأن أي أمة لا بد أن تُهلك أو تُعذب قبل يوم القيامة –بسبب أعمالها!-
6- هدى ورحمة للمؤمنين بتأكيد الحقائق الإيمانية عندهم, بتذكيرهم بحقيقة الإنسان وبالغاية التي خُلق من أجلها وأن البشرية بدأت بالإيمان ثم كفرت, وأن الأصل في الإنسان التوحيد. "... وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [يوسف: 111]"
7- تصحيح الأخطاء الواردة في الكتب السابقة, وتصديق الصحيح منها:
"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل : 76][2]" ا.هـ 
فلهذه الأسباب المذكورة في الكتاب كان القصص .. وكان القص!




[1] محمد بن جرير الطبري, جامع البيان في تأويل القرآن, تحقيق: أحمد محمد شاكر, الجزء 15, ص.552.
[2] عمرو الشاعر, عائشة أم المؤمنين, العبقرية المفترى عليها, ص.38-39!

1-2 إشكالية المصطلح المعاصر

إشكالية المصطلح المعاصر
تعد إشكالية استخدام المصطلح في عصرنا الحديث من أبرز الإشكاليات التي يقابلها جل المتعاملين مع النص القرآني, لأنها تتطلب تمكناً لغويا من الباحث, يجعله قادراً على الفصل بين الاستعمال العربي القديم للكلمة والاستعمال القرآني لها, وبين المعاني التي طرأت لها بعد العهد النبوي وبين الاستعمال الاصطلاحي لها, الطارئ في عصرنا الحديث, والمستخدم في ثقافتنا المعاصرة! وقليلٌ هم من يفلحون في التملص من ربقة محاولة إسقاط المدلول الاصطلاحي على الكلمة القرآنية, أما الأكثرون فيجهدون أنفسهم من أجل إثبات أنه من الممكن قبول هذا المعنى مع القرآن, وأنه من أوجه "الإعجاز" البلاغي البياني للقرآن! وتظهر هذه الإشكالية كأبرز ما يكون في كتابات أرباب "الإعجاز" العلمي في القرآن, والذين غالباً ما يكونون من المتخصصين في المجالات العلمية, بينما يعانون من عجز حاد قبالة اللسان العربي, ومن ثم يأتون بالعجائب, التي تُشمت الأعداء وتضحكهم, وتقدم لهم مطاعن جاهزة في الكتاب العزيز!!
ولا تقتصر هذه الإشكالية على أفراد طائفة بعينها وإنما تلقي بظلالها على كل أفراد المجتمع الحديث, والذين دأبوا على استعمال كلمة بمدلول محدد, حيث يظل هذا التصور أو بعضاً منه مرافقا لهذه الكلمة في مؤخرة عقولهم أثناء تعاملهم مع الكلمة!! ونضرب لذلك مثلا بكلمة "أسطورة/أساطير", والتي هي من الكلمات كثيرة الاستعمال في المجال الأدبي بل وفي الحياة اليومية. فإذا نظرنا في تعريفات أهل الاختصاص لها, وجدنا أنهم لم يختلفوا عن العوام بشأنها, فقسموها إلى أنواع وأصناف عدة, وقدموا لكل صنف تعريف باعتبار المنظور الذي يُنظر به إليها, حتى أننا نجد أن الدكتور كارم محمود عزيز يسود في كتابه "أساطير العالم القديم" قرابة الخمس عشرة صفحة حول تعريفات الأسطورة! فيقدم لها تعريفات بالنظر إلى أصلها وبالنظر إلى مضمونها وبالنظر إلى سماتها وبالنظر إلى وظائفها!! مؤكداً أنه من الصعب تقديم تعريفٍ محدد للأسطورة, ويقدم لهذه التعريفات كلها بمقولة سانت أوغسطين: "إنني اعرف جيداً ما هي الأسطورة بشرط ألاّ يسألني أحد عنها، ولكن إذا ما سُئلت، وأردت الجواب، فسوف يعتريني التلكؤ[1]" ا.هـ

إلا أننا –كغير متخصصين- نفهم أن المقصود بالأسطورة هو قصة تحكي أحداثا غير معقولة (خرافية) من المفترض أنها حصلت في الأزمنة الغابرة. فهل استعمل القرآن الكلمة بهذا المعنى؟! القارئ لعامة الكاتبين حول الكلمة يجد أنهم يؤيدون هذا القول, وذلك لأنهم وجدوا هذا المعنى في المعاجم اللغوية, فمما ذكره ابن فارس حول الكلمة: "أمَّا الأساطير فكأنها أشياءُ كُتبت من الباطل فصار ذلك اسماً لها، مخصوصاً بها. يقال سَطَّر فلانٌ علينا تسطيراً، إذا جاء بالأباطيل.[2]" ا.هـ
والسؤال هنا: هل ما قاله ابن فارس يتفق مع ما ذكره القرآن؟ إذا نظرنا في القرآن وجدنا أنه لا يؤيدهم فيما يقولون به, فأول ما يلحظه الناظر أن كلمة "أسطورة" لم تأت مفردة في الكتاب, وإنما أتت في تسع مواطن جمعاً ومضافة إلى "الأولين", فإذا نظرنا في هذه المواطن وجدنا الرب يقول حاكيا قول الكافرين:
"... حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام: 25]", "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَـذَا إِنْ هَـذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ [الأنفال: 31]", "وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [النحل: 24]", "لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِن قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [المؤمنون: 83]", "وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفرقان : 5]"
والتخصيص بالإضافة إلى "الأولين" هو من أجل تمييزها عن "أساطير الآخرين", والأساطير جمع أسطورة, وهي الشيء المسطور, ولقد رمى المشركون الرسول بأنه كان يكتتب هذه الأساطير, فهم كانوا يريدون القول أن محمد وجد كتبا من كتب السابقين وهو ينقل عنها, فهم لا يعيبون في المحتوى ولا يرمونه بالباطل أو الخرافة ولا أنه مجموعة أكاذيب, وإنما ينفون عنه الأصالة, ويقولون أن هذا ليس بالجديد وإنما هو مأخوذ من كتابات السابقين الأولين! لهذا جاءت الكلمة مضافة دوما إلى "الأولين" ولو كان المراد من الأساطير الخرافة لرد الله مبيناً أنه لا تشابه بين الاثنين, فشتان الفارق بينهما, وهذا ما لم نجده وإنما وجدنا الرد يقول أنه ليس من عند محمد ولا غيره " قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً [الفرقان : 6]", فالقرآن كتاب أصيل من عند رب العالمين!
إذا وكما رأينا فالقرآن استعمل الكلمة بالمعنى الأصلي لها وهو "الكتابات المسطورة" ثم جاء اللاحقون فأسقطوا عليها معنى إضافياً ارتبط بها وأصبح هو الفهم المعتمد للمفردة القرآنية!! وكذلك لاقت الكلمة الرئيسة لموضوعنا "قصص" معاملة لا تليق بها ولا تتناسب مع محتواها, وذلك لأن الإنسان المعاصر فهم "القَصص" على أنه جمع قِصة, والقصة عمل أدبي, يختلف تصوره من شخص لآخر, إلا أنه يكاد ينحصر في عقول القراء في نقطتين: أنه عمل خيالي, فإن لم يكن خياليا, فهو عمل للعبرة والعظة أو ... الترفيه!! وعلى الرغم من أن القرآن لم يستعمل كلمة "قِصص" وإنما "قَصص", وكذلك لم يستعمل كلمة "قصة" قط, فإن ظلال ومتتبعات هذه الكلمة ستظل عالقة بذهن القارئ, حيث سينظر إلى قصص القرآن كما ينظر إلى أنماط القصص الأدبي, ثم يبدأ في تقسيمه إلى "القصة والرواية والحكاية والأقصوصة" والتعامل معه على هذا الأساس!! وعلى الرغم من أن القرآن نص سابق لهذه التقسيمات, إلا أنه يُفترض فيه أنه نص مطلق, فهل يمكن قبول هذه التصورات بشأنه؟!



[1] كارم محمود عزيز, أساطير العالم القديم, ص.19.
[2] أحمد بن فارس, معجم مقاييس اللغة, الجزء الثالث, ص. 72-73.